من بهاء الدين إلى عبداللطيف
13 وزيرًا فى معركة الدروس الخصوصية..لم ينجح أحد
استنزاف مليارات الجنيهات من جيوب المصريين للعام الخامس والثلاثين.. والحصة وصلت 250 جنيهًا
ربة منزل: دروس الرياضيات والإنجليزى وحدها تلتهم نصف دخل زوجى
ولى أمر: أقترض من أصدقائى وأقاربى لأسدد دروس أبنائي
دكتور عاصم حجازي: المواجهة بالطرق التقليدية لن تجدى
دكتور طارق مقلد: المنظومة التعليمية فقدت توازنها والمدارس فقدت قيمتها
محمد عبد اللطيف " width="1013" height="1400">محمد عبد اللطيف ">
هى سرطان ليس فى الصحة ولكن فى التعليم.. فكما ينهش السرطان الأجساد وينتزع منها روحها، وكذلك تفعل الدروس الخصوصية: تنهش ميزانية الأسرة ثم تحرقها حرقا..
وهى أيضا كالسرطان بلا علاج، حيث فشل فى مواجتها 13 وزيرا تولوا وزارة التعليم منذ مطلع تسعينيات القرن الماضى وحتى الآن، أى منذ عهد الوزير حسين كامل بهاء الدين وحتى عهد الوزير الحالى محمد عبداللطيف...
شبه ثالث بين السرطان والدروس الخصوصية وهى أن كلا منها يزداد شراسة يوما بعد آخر، فبعد أن كانت الدروس الخصوصية تنطلق مع بداية العام الدراسى، انطلقت هذا العام فى شهر أغسطس الماضى أى قبل حوالى شهرين كاملين من بدء العام الدراسي!.. وليس هذا فقط هو جديد الدروس الخصوصية، فالجديد هذا العام أن سعر الحصة الواحدة بلغ 250 جنيها فى بعض المواد الأساسية!
والسؤال: ما الذى جعل الدروس الخصوصية سرطانا بلا علاج؟.. ومن تركها تنهش ميزانيات ملايين الأسر ويبتلعها ؟.. والسؤال الأخطر: هل لهذا الأمر نهاية؟
الواقع يقول إنه رغم تجريم وزارة التربية والتعليم لهذه الظاهرة وقيام المحليات بإغلاق العديد من مراكز الدروس الخصوصية كل عام، إلا أن الدروس الخصوصية صارت هى المتحكم فى العملية التعليمية فى مصر، حتى إنها أصبحت جمهورية مستقلة لها قوانينها وقواعدها وعالمها، سواء فى المراكز أو المنصات الخاصة التى تنافس القنوات التعليمية التى أطلقتها وزارة التربية والتعليم، حيث تلتهم هذه الظاهرة وفقًا لبحث الدخل والإنفاق الصادر عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء ما يقرب من 136 مليار جنيه سنويًا على الدروس الخصوصية، بينما تشير تقديرات برلمانية وتقارير أخرى إلى أرقام متباينة تصل أحيانًا إلى 247 مليار جنيه، ما يعكس حجم الظاهرة واتساعها.
وصار الجميع متساوين أمام الدروس الخصوصية ولا فرق بين المدارس الحكومية والخاصة، فالتعليم لم يعد مكانه المدارس بل خرج منها متسللًا إلى مراكز الدروس الخصوصية التى أصبحت منتشرة فى جميع أنحاء الجمهورية.
وتختلف أسعار حصص الدروس الخصوصية وفقًا للمنطقة ومستوى التعليم إذا كان عامًا أو خاصًا، وإذا ما كان باللغة العربية أو بلغة أجنبية؛ لتتراوح الأسعار بين 50 و 100 جنيه للحصة الواحدة فى المرحلة الابتدائية، وتصل من 200 لـ250جنيها للحصة الواحدة فى الثانوية العامة فى بعض المناطق.
ورغم أن الجميع يتفق على أن الدروس الخصوصية أصبحت عبئًا اضافيا، إلا أن الغريب أن أغلب أولياء الأمور يعترفون بأنهم لا يستطيعون الاستغناء عنها، حتى ولو جاء ذلك على حساب احتياجات أساسية أخرى داخل البيت.
نزيف الميزانية
تقول إحدى أولياء الامور إنها تنفق ما يقرب من 3 آلاف جنيه كل شهر على الدروس الخصوصية لابنها فى الصف الثالث الإعدادى وابنتها فى الصف الخامس الابتدائى، وتضيف: «أحيانًا نضطر نأجل دفع فواتير أو نلغى مشتريات ضرورية للاسرة كى ندبر مصاريف الدروس، ولو معملناش كده العيال هيتأخروا عن زمايلهم».
وتشير إلى أن حصص الرياضيات واللغة الإنجليزية وحدها تساوى نصف دخل زوجى، ومع ذلك لا تستطيع التوقف لأنها ترى أن المدرسة لم تعد كافية فى إفادة أبنائها.
بينما يحكى محمود امين ولى أمر أنه يخصص نصف راتبه تقريبًا للدروس الخصوصية لابنه فى الثانوية العامة ويقول «الحصة دلوقتى بـ 200 جنيه، يعنى لو عنده أربع مواد أساسية محتاج شهريًا آلاف الجنيهات. أنا بقيت استلف من أصحابى وأهلى عشان أوفرله ده، وبعتبر إن دى أهم من الأكل والشرب، لأن مستقبله كله متوقف على الدروس». وأكد أن المدرسة بالنسبة له لم تعد مكانًا للتعليم، بل مجرد إجراءات روتينية للحضور والغياب.
وقالت ولى أمر أخري إن الضغط النفسى على الطلاب لا يقل عن الضغط المادى على الأسر. تقول: «بنتى فى أولى ثانوى بتخرج من بيتنا من 8 الصبح، وبعد المدرسة بتروح درس ورا درس لحد 10 بالليل. مفيش وقت لتمارس أى هواية. أنا نفسى خايفة عليها من الإرهاق، بس مضطرة أعمل كده عشان متتأخرش».
وعبر محمد على ولى أمر عن غضبه من تحول التعليم إلى تجارة صريحة. يقول: «المدرس فى الفصل مش بيشرح، وكل همه يقول للطلبة تعالوا السنتر إحنا بقينا زباين مش أولياء أمور الطالب بيتعامل على إنه عميل والدرس بقى سلعة زى أى سلعة، ويضيف أنا معترض من جوايا لكن مضطر أدفع عشان ابنى ميكونش أقل من زمايله».
وقالت ولى أمر أخرى عارفين إنه صعب يجرّم الدروس الخصوصية لأن فيه أطفال بتحتاج مساعدة لكن علی الأقل یمنعوا موضوع السناتر ویعملوا عقوبات شدیدة علی المدرسین اللی مش بیشرحوا فى الفصول واللی بیضغطوا علی الطلبة علشان تاخد دروس ویتصرفوا فى موضوع درجات الأنشطة ده، الموضوع یتحجم یعنی ميبقاش لو الدروس اتلغت الطلاب تسقط لأن المدارس ما بتعلمش حاجة ولا المجاميع المدرسية لها أى استفادة غير أن المدرس ما يحطش الطالب فى دماغه وبس.
المدرسة تفقد دورها

الدكتور عاصم حجازى أستاذ علم النفس التربوى بكلية الدراسات العليا للتربية بجامعة القاهرة، أكد أن الدروس الخصوصية تحولت من مجرد ممارسة تعليمية جانبية إلى ظاهرة متشابكة ومعقدة، تتداخل فيها عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية، ولم تعد مرتبطة فقط بضعف المدرسة أو تقصير الوزارة، وإن بعض الأسر تنظر إليها باعتبارها وسيلة للتفاخر والمقارنة مع غيرها حتى أصبحت ثقافة متجذرة فى المجتمع، وهو ما يجعل مقاومتها بالطرق التقليدية أمرًا لن يجدى.
وأوضح أن هذه الظاهرة أثرت بشكل مباشر على مكانة المدرسة ودورها، إذ إن بعض المعلمين يتقاعسون عن أداء واجبهم التعليمى داخل المدرسة، ويدفعون الطلاب بصورة غير مباشرة إلى اللجوء للدروس الخصوصية، باعتبارها أكثر فائدة وجدوى، مشيرا إلى أن التعليم داخل السناتر أو الحصص الخاصة غالبا ما يركز على الجانب المعرفى فقط، ويهمل باقى الجوانب التى تسهم فى تكوين شخصية الطالب، فضلًا عن اعتماده على أسلوب الحفظ والتلقين، وهو ما يتناقض مع جهود وزارة التربية والتعليم الهادفة إلى تطوير طرق التدريس والانتقال بالطلاب إلى مستويات معرفية أعمق.
وأضاف حجازى أن هذه الممارسات أدت إلى تكوين اتجاهات سلبية لدى الطلاب وأولياء الأمور تجاه المدرسة، حتى فقدت أهميتها وقيمتها فى نظر كثيرين. بل إن السناتر التعليمية أصبحت فى الغالب بديلًا فعليًا للمدرسة، وهو أمر بالغ الخطورة لأنها تركز على تحصيل المعلومات فقط، دون بناء شخصية متكاملة للطالب، كما أن غياب الرقابة عليها يفتح الباب أمام تجاوزات غير مقبولة، فضلًا عن دورها فى مقاومة أى تطوير حقيقى تسعى الوزارة لتنفيذه.
وعن الخسائر التى يتعرض لها الطالب نتيجة الاعتماد الكلى على الدروس الخصوصية، أكد أستاذ علم النفس التربوى أنه يفقد ثقته بنفسه تدريجيًا، ويصبح شخصية اعتمادية غير قادرة على تحمل المسئولية أو اتخاذ القرار. كما يتعرض لأضرار نفسية وجسدية بسبب الإرهاق الناتج عن التنقل المستمر بين الدروس والالتزام بمواعيدها، بالإضافة إلى غياب واضح لتنمية المشاعر والجانب الوجدانى، فى ظل التركيز على الجانب المعرفى وحده. واعتبر أن الأخطر من ذلك كله هو الصورة السلبية التى تتكون عن المعلم، ما يضعف دوره كقدوة ويجعل العملية التعليمية برمتها مجرد وسيلة للنجاح فى الامتحانات.
وفيما يتعلق بالحلول الممكنة، شدد حجازى على أن البداية الحقيقية تكمن فى تطوير العملية التعليمية داخل المدارس، من خلال تعيين أعداد كافية من المعلمين، وتدريبهم بشكل مستمر، والارتقاء بقدراتهم المهنية والتربوية، بحيث يستطيع الطالب أن يحصل على تعليم جيد داخل مدرسته. وأكد أن إدماج تطبيقات الذكاء الاصطناعى فى العملية التعليمية قد يكون من الوسائل الفعالة لتقليل الاعتماد على الدروس الخصوصية تدريجيًا، وصولًا إلى القضاء عليها وإعادة المدرسة إلى مكانتها الطبيعية كمصدر أساسى للتعليم.
واختتم الدكتور عاصم حجازى حديثه بالتأكيد على أن القضاء على ظاهرة الدروس الخصوصية لن يتحقق بين يوم وليلة، لكنه يبدأ بخطوات جادة لإعادة الثقة فى المدرسة والمعلم، حتى تعود العملية التعليمية إلى مسارها الطبيعى، ويجد الطالب فى مدرسته ما يكفيه دون الحاجة إلى بدائل مرهقة لا تُثمر إلا عن حفظ بلا فهم وشهادات بلا مضمون.

وعلى الجانب الآخر أكد الدكتور طارق مقلد الباحث والخبير التربوي أن الدروس الخصوصية أصبحت بالفعل «سرطان التعليم فى مصر»، فهى تنهش جسده بلا هوادة رغم كل المحاولات والقرارات التى أطلقتها وزارة التربية والتعليم لمواجهتها. وأوضح أن السبب الحقيقى وراء استمرار الظاهرة لا يقتصر على وجود السناتر أو بعض المدرسين فقط، بل يتعلق بمنظومة تعليمية كاملة فقدت توازنها.
وأشار إلى أن طول وتعقيد المناهج الدراسية، وازدحام الفصول بأعداد تفوق طاقتها، إلى جانب الأعباء المالية والإدارية التى تثقل كاهل المعلم، كلها عوامل تضعف من دور المدرسة وتدفع بالطلاب للبحث عن بديل، بينما يضطر المدرس للبحث عن مصدر دخل إضافى، ليجد الجميع فى الدروس الخصوصية الحل الأسرع، حتى وإن كان ذلك على حساب العملية التعليمية نفسها.
وأوضح أن المدرسة فقدت هيبتها كمؤسسة تعليمية وتربوية، بعدما تحولت الفصول إلى مجرد أماكن مكتظة بلا قيمة حقيقية، وأصبحت المدرسة فى نظر الكثير من الطلاب مجرد «سجل حضور وغياب». وأكد أن الدروس الخصوصية خطفت دور المدرسة بالكامل، فصار الطالب يذهب إليها مكرهًا، بينما التعليم الفعلى يحدث فى السنتر.
وشدد مقلد على أن السناتر أصبحت هى «المدرسة البديلة»، وهو ما يمثل خطورة كبيرة، لأنها لا تخضع لأى رقابة حقيقية ولا تحمل رسالة تعليمية أو تربوية. وأوضح أن الهدف الأساسى للسناتر هو جمع الأموال فقط، وهو ما ينتج عنه عدة مخاطر:
غياب كامل للقيم التربوية، حيث يتلقى الطالب المعلومة مجردة دون أى توجيه سلوكى أو وطنى.
تحول التعليم إلى «تجارة»، تقوم على مبدأ المعلومة مقابل المال.
فقدان روح الجماعة التى توفرها المدرسة من خلال الأنشطة والمشاركة، بينما السناتر مجرد قاعات للتلقين.
وأكد أن الاعتماد الكامل على الدروس الخصوصية يحرم الطالب من أبسط حقوقه التعليمية والتربوية، حيث يفقد القدرة على الاعتماد على نفسه، ويعتاد على التلقين، ويُرهق نفسيًا وجسديًا بسبب الجداول المزدحمة بين السناتر، فضلًا عن شعوره بالاغتراب عن المدرسة واعتباره مجرد «زبون» فى سوق التعليم، وهو ما يؤدى فى النهاية إلى ضياع المهارات الحياتية والوجدانية التى كان من المفترض أن تصقلها المدرسة.
وعن الحلول، أوضح أن مواجهة الظاهرة لا تتم بالحملات الأمنية فقط، بل من خلال إصلاح جذرى يبدأ بإعادة مكانة المعلم ورفع دخله بشكل يليق بدوره حتى لا يضطر للبحث عن دخل إضافى، إلى جانب تطوير المناهج لتكون أبسط وأكثر ارتباطًا بالحياة العملية وأقل حشوًا، مع ضرورة تخفيض الكثافة الطلابية داخل الفصول إلى 25 أو 30 طالبًا كحد أقصى، كما أكد أهمية تفعيل الأنشطة المدرسية مثل الرياضة والموسيقى والمسرح، بما يعيد للمدرسة جاذبيتها، مع التوسع فى رقمنة التعليم عبر منصات إلكترونية مجانية تفاعلية تعوض الطلاب عن السناتر.
واختتم حديثه بالتأكيد على أن الدروس الخصوصية لم تعد مجرد مشكلة تعليمية، بل قضية أمن قومى، لأنها تهدد مستقبل الأجيال وتصنع طلابًا بلا انتماء ولا مهارات حقيقية. وقال: «إذا لم تستعد المدرسة مكانتها كبيت للعلم والتربية، فلن ينصلح حال التعليم فى مصر، مهما صدرت من قوانين أو قرارات».