نور
فى يوم 23 أغسطس 1965 خرج جموع المصريين لوداع الزعيم مصطفى النحاس لمجرد سماعهم خبراً صغيراً يؤكد وفاته، وقد أذيع الخبر فى راديو لندن «بى بى سى» الذى يبث إرساله من إنجلترا، ومعلوماتى أن الجماهير خرجت عقب قراءتها خبر الوفاة فى صحيفة الأهرام؟
ولكن قصة راديو لندن حكاها لى المناضل الوفدى الكبير النائب الراحل «طلعت رسلان».
قال لى عمنا طلعت رسلان، فى أحد لقاءاتى معه فى مطلع التسعينيات، إن راديو لندن «بى بى سى» أذاع خبر وفاة الزعيم مصطفى النحاس، بعد منتصف ليل يوم 23 أغسطس 1965 ولذلك انتشر الخبر، عن طريق الاتصالات التليفونية بين الوفديين، ومن ثم بين المصريين، لتشهد شوارع القاهرة، جنازة تاريخية، بدون إعلام أو حشد ممنهج، وكانت جنازة تعبر تعبيراً صادقاً عن حب المصريين للنحاس، الذى اختفى عن الأنظار لمدة وصلت إلى 13 عاماً.. وما لاحظه طلعت رسلان ولفت انتباهى إليه، هو أن هذه الحشود كانت عام 1965 فى عز مجد جمال عبدالناصر، وأوج شعبيته، وبالتالى كانت جنازة طبيعية، ولكنها عكست مدى احتياج المصريين لأيام النحاس وزعامته!
من الحكايات المثيرة التى تم تداولها عن شغف وجنون المصريين بحب مصطفى النحاس ما نشره رئيس تحرير الجمهورية الأسبق الكاتب الصحفى مصطفى بهجت بدوى، فى منتصف السبعينيات، فى مقال بعنوان.. «رقصة النصر فوق جثمان النحاس» قال فيه أن السلطات المصرية، أرادت أن تلغى تشييع جنازة النحاس باشا، بحجة المحافظة على الأمن، رغم أن آلاف الآلاف من الجماهير، احتشدت وسدت الطرق من جامع عمر مكرم إلى ميدان التحرير، وحتى جامع الحسين.. فنشأت معركة حقيقة، بغير مبرر، بين الشرطة وجماهير الشعب: أيهما يفوز بالجثمان.. وهل تستمر الجنازة أم تتبدد؟! وانتصر الشعب بطبيعة الحال، فقد تم خطف الجثمان والجماهير تهتف: «لا زعيم بعدك يا نحاس اشك لسعد الظلم يا نحاس.. والزعامة ماتت من بعدك يا نحاس».. حتى شوهد أحد البسطاء يرقص بجوار الجثمان فرحاً بخطف جسد الزعيم من الشرطة، وسيطرة الشعب عليه!
هكذا كان النحاس.. مع الناس.. منذ مولده وحتى الممات!
ولأن النحاس كان يواجه كل المؤامرات الموجهة ضده بالعقل، صار زعيماً ولم تتوقف شعبيته عن الصعود، وهذا سر الحشود فى جنازته.
من الحكايات المثيرة عن الظلم الذى تعرض له النحاس باشا، ما سرده الكاتب الكبير سعيد الشحات فى مقال نشرته صحيفة «اليوم السابع»، فقد قال إنه فى 22 سبتمبر 1927 انتخب الوفد مصطفى النحاس رئيساً للوفد خلفاً لسعد زغلول، وفى17 مارس 1928 شكل وزارته الأولى، وفى يوم 22 يونيو 1928 خرجت الصحف التى تصدر فى المساء، وفى اليوم التالى ظهرت صحف «الاتحاد» و«الأخبار» و«السياسة» بمانشيتات عريضة هى فضائح برلمانية خطيرة.. رئيس الوزراء «النحاس» ورئيس مجلس النواب «ويصا واصف» يستخدمان السلطتين التنفيذية والتشريعية لمصالحهما الذاتية، وتحت هذه المانشيتات نشرت صورة لعقد أتعاب المحامين بعد سرقته من منزل «جعفر فخرى بك» بالإسكندرية قبل ثلاثة أشهر ونصف.. ويؤكد صلاح عيسى فى كتابه «حكايات من دفتر الوطن» عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب– القاهرة»، أن النحاس تقدم ببلاغ يتهم هذه الصحف بقذفه لأنها وصفته هو وزميليه بالمجرمين بالفطرة والنذالة، ورغم ذلك حفظت التحقيق، وأحالت المحامين الثلاثة إلى مجلس تأديب المحامين، لارتكابهم عشرة اتهامات، من بينها، المبالغة فى الأتعاب، وعدم قطع «النحاس» صلته بالقضية بعد رئاسته للحكومة، ومواصلة ويصا، مرافعته فيها وحدها رغم تركه الاشتغال بالمحاماة بعد انتخابه رئيساً للنواب.
وأمام مجلس تأديب المحامين وفقاً لعيسى دارت «واحدة من أكثر المعارك القانونية ضراوة»، فند فيها خمسة من ألمع المحامين هم «نجيب الغرابلى» و«محمود بسيونى» و«كامل صدقى» و«حسين صبرى» و«مكرم عبيد» كل الاتهامات، ويؤكد «صبرى أبوالمجد» فى كتابه «سنوات ما قبل الثورة 1930-1952»، أن دفاع مكرم عبيد كان فى 156 صفحة بالغة الروعة، وجاء فيها: «ليس للسياسة ضمير فى أى بلد من بلاد الله، أما فى مصر فليس للسياسة عقل أيضاً»، ويؤكد «أبوالمجد»: «فى7 فبراير» مثل هذا اليوم «1929 قضى مجلس التأديب بأن التهم التى أسندت إلى النحاس، وويصا، وفخرى خالية من كل أساس».
هكذا كان «النحاس» حتى وهو رئيس للوزراء.. يواجه الدسائس والمؤامرات من أعدائه أعداء الأمة.. وحتى خلال جنازة رحيله.. أرادوا دفنه من سكات.. ولكن سيرته العطرة كانت على كل لسان محب لهذا الوطن.. فعاش النحاس زعيماً ومات زعيماً لا زعيم بعده!!