أحلام لا يحاسب عليها القانون
لدى جاري حمار ظريف لطيف، استأنست به واعتدت صوته وتآلفت معه إلى درجة أنني لا أستيقظ صباح كل يوم إلا على نهيقه يخرم أذني، فأقوم من نومي وأؤدي طقوسي الصباحية استعدادا لخروجي إلى عملي ممتلئا بالحيوية والنشاط، لكنني منذ أيام قليلة فتحت عيني وإذا بالساعة التاسعة، انزعجت واندهشت ثم سألت نفسي: كيف نمت كل هذا الوقت؟ ولماذا لم يوقظني صوت الحمار كالعادة؟ هل أصابه مرض؟ هل مات ؟ هل خرج لمهمة محددة أو أداء عمل ما ؟ أم أن الجار العزيز قرر الاستغناء عن حماره لأن وجوده أصبح مزعجا للجيران ؟ أسئلة كثيرة وتخمينات أكثر وحيرة ما بعدها حيرة حتى قلت لنفسي ، لقد فات ميعاد ذهابي للعمل ، نم يا طارق ، لأنك إن ذهبت فسيكون مصيرك الخصم وبئس المصير تقلبت يمينا ويسارا حتى غلبني النوم وإذا بي – خير اللهم اجعله خير – في حضرة الأبنودي ، ويده تربت على كتفي وصوته يهمس في أذني : طارق أرجوك ، اسمعني شيئا من شعرك.
أجبته : وهل يُعقَل أن أُشعِر والأبنودي معي ، دع الشعر للشعراء يا صديقي العزيز ، اشجني أنت وأمتعني ، وأنا لك منصت.
لم يبخل الخال وأسمعني دررا لكنه سرعان ما كرر طلبه بأن أسمعه شعرا.
قاطعني: اشعر يا طارق.
طارق ما أنا بشاعر.
كررها ثالثة ورابعة وخامسة: اشعر يا طارق
فرددت عليه: ماذا أقول؟
رد بلطف : اكتب شعرا في حمار جارك ، خاصة أنه قرر أن يثور على صاحبه ويتمرد على أوامره ، وقرر ألا يتحمل فوق طاقته ،
هللت بفرح وتساءلت : هل هذا صحيح ؟ هل تمرد الحمار أخيرا على القهر الذي اعتاده والضرب الذي آلمه والظلم الذي احتمله على امتداد الزمن؟
رد الأبنودي: نعم ، نعم ، لكل شيء آخر ولا بد لليل من نهار ، فمن المؤكد أن الحمار لن يبقى حمارا إلى الأبد وللصبر حدود ،
سألته :
هل أنت متأكد مما قلت؟
رد الأبنودي : طبعا ، لقد رأيت بأم عيني الحمار وهو يرفص صاحبه وهو يقول له : اسمع يا أخينا ، لقد تعبت منك ولا أريد أن أعمل معك ، ولن أسمح لك بأن تقيدني في العربية الكارو لتنقل الأمتعة من هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنا لن تركبني ، ولن يركبني غيرك ، لا بد أن أعمل قدر طاقتي ليكون جزائي بقدر الجهد الذي أبذله ، لا بد أن آكل أحسن برسيم وأشرب المياه النقية وأعيش في زريبة لوكس غير تلك التي تمتهن كرامتي فيها ، لابد أن أتمتع بقدر من الحرية ،
قاطعت الأبنودي: حتى الحمار يريد أن يكون حرا؟
رد الأبنودي : ولما لا ؟ الحمار يعرف طريقه ، فما بالك لو كان بلا قيد ، من المؤكد أنه سيعمل أكثر وسيعطي صاحبه ما يسعده ويُثلِج صدره المهم أن يوافق صاحب الحمار على ما يتطلع إليه حماره ، قبل فوات الأوان، قبل أن يُعدي بقية الحمير فيتمردون مثلما يتمرد وتتحول ثورة الحمار الواحد إلى ثورة لكل الحمير في الحي.
قلت مندهشا : إنه شيء أغرب من الخيال
قال الأبنودي: صدقني يا طارق ، إن تجربة حمار جارك ، تستحق الاهتمام ، ولو عدت لدنياكم لكتبت حولها ، ما لم يكتبه عنترة في عبلة وقيس في ليلى وروميو في جلييت ، أرجوك اطلق العنان لخيالك ثم اسمعني ما سوف تخطه في مثل تلك التجربة الفريدة.
غصت في ذهني بعد أن استغرقتني الفكرة حتى غرقت فيها ، وإذا بي أُنشِد معبرا عن تلك التجربة، وأقول:
من كُثر ثُقل الحِمل
صَرَخ الحمار مالوَجَع
على ظهري شِلت كِثير
من تعبي قَرَّبت أقع
أنا مِش ها وَطّي لحَد
للصَبر وَقت وحَد
وقراري بعد اليوم
أصون كرامتي بجَد
نَهَق بصوت عالي
هاتوا لي شخص أركبُه
ويا ريت كمان كرباك
ألسوعُه واضربُه
ما بقاش فيه لِيَّ ضاحِب
بقا غضبي فرض وواجِب
شوفوا حمار غيري
رِضي بالإهانة وخَضع
واحِد من الواقفين
لَعِّب عينيه وحَجبُه
زعأ وقال شايفين؟!
حتى الحمار مِش عاجبُه
خَلّوه يشيل بزيادة
امنعوا عَنّه العلئ
إوعاكُوا يوم ينتبِه
احرموه من كل شيئ
سيبوا لي ابن الحمار
أفكره بأصلُه
أشَيلُه فوق طاقتُه
والعَن سلسفيل أهلُه
الحمار يِفضَل حمار
حُطوا عليه حطوا
لَو عليتوه في يوم
كُلُّكُم ها توَطّوا
رفع الكرباك لفوق
خاف الحمار واتفزَع
لسعة ورا لسعة ورا لسعة
غُلُب غُلبُه ورَكَع
وقال الحَق عندي
ثاني مِش ها اعمل جدَع
وفجأة لَقِتني صحيت
وانا باصرُخ الحقوه
حتى الحمار كابتينُه
مش عايزين يرحَموه
وفتحت عيني لأجدني في الغرفة وزوجتي تزغدني: فيما كنت تهزي ؟ ومع مَن ؟ لماذا لم تذهب لعملك اليوم ؟
رددت مبتسما : لأن حمار جاري لم يوقظني، هنا أسرعت زوجتي غاضبة ثم أغلقت باب غرفتي وهي تقول ك خلي الحمار ينفعك.
قلت لنفسي: كلهن مجانين، والأفضل أن أعود للنوم، فعلني أقابل الأبنودي ثانية بدلا من تلك الخناقات اليومية السخيفة.