رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي

كبسولة فلسفية

التصوف المسيحي تجربة روحية عميقة يختبر فيها المؤمن حضور الله المباشر في قلبه وروحه، فتتحول الصلاة والتأمل إلى نافذة لفهم الله وإدراك أبعاد وجوده. يمنح التصوف القوة للنفس ويطوّر الضمير الداخلي، ويزرع في القلب نورًا يوجّه السلوك اليومي نحو الفضيلة ويقوده إلى الاتحاد الروحي مع الله.
ولنعرف، عزيزي القارئ، أن ما يميز التصوف المسيحي هو التركيز على العلاقة الشخصية مع يسوع المسيح، التي تجمع بين الإيمان العميق والعمل الواقعي في الحياة، دون انفصال عن الواقع أو الذات. إنه دعوة للعيش بعمق، حيث تتشابك الخبرة الروحية مع ممارسة المحبة والخير، فتتجسد التجربة الإيمانية في حياة المؤمن وتنعكس على العالم المحيط به.
وبينما يركز التصوف المسيحي على تجربة الله في حياة المؤمن، فإنه ليس فلسفة أو نظامًا فكريًا بقدر ما هو ثقافة للروح. وقد وُصف بأنه "إدراك حضور الله في النفس وفي الطبيعة"، أو بشكل أعمّ بـ "إدراك في الفكر والشعور لتجسيد الزمني في الأبدي، والأبدي في الزمني". ويصفه الدكتور تشارلز بيغ – مؤرخ وفيلسوف لاهوتي إنجليزي – في كتابه المسيحيون الأفلاطونيون في الإسكندرية بأنه "دم الحياة للدين"، ويقول: "كل من يتعدى الدين عنده كونه مجرد شكل لائق هو متصوف. والمتصوف هو من يؤمن بالأسرار، والأسرار الثلاثة الكبرى هي: الله، النفس، والوحي".
ولنواصل هذا العرض، لنضع بعض المبادئ الأساسية للتصوف السليم والحقيقي. أولًا، هناك رؤية روحية؛ فالروح في الإنسان قادرة على الإدراك كما تدرك الحواس، ولدينا، كجزء من صورة الله فينا، القدرة على تمييز الحقيقة الروحية. ثانيًا، لكي يعرف الإنسان الله، يجب أن يشترك في الطبيعة الإلهية، فالإنسان المشارك في الطبيعة الإلهية هو نتيجة ومكمل للإنسان المخلوق على صورة الله. ويقول أفلوطين – فيلسوف صوفي يوناني – الذي وصفه البعض بأنه "كوليريدج عصره": "كما أن العين لا تستطيع رؤية الشمس إلا إذا كانت شمسية، كذلك النفس لا تستطيع رؤية الله إلا إذا كانت إلهية".
ويتضح لنا هنا أن المصدر البشري للإدراك الإلهي هو ما يسميه تينيسون – شاعر إنجليزي – "الأكثر شبهًا بالله داخل النفس البشرية". ومرة أخرى، تمنع الشهوة والأنانية الروح من معرفة الله، في حين أن نقاء القلب شرط أساسي لنيل الرؤية البهية، والقداسة تمثل شرطًا مسبقًا لرؤية الله. فالرؤية الإلهية لا تنفصل عن التشبه بالله، وبما يتصل بذلك، فإن التطهير يزيل العقبات أمام اتحاد الإنسان مع الله، ويقطع الغشاء عن عين الروح، ويعمل كالترياق ضد الأنانية والشهوة. إنه دور الإنسان في العمل الروحي، تعاون الإنسان مع الإله في تشكيل الشخصية وبناء ذاته الروحية.
ومع ذلك، هناك تحذير مهم يجب الانتباه إليه: فالدافع الأساسي للتطهير هو الحب الإلهي المقيم والفاعل. فالتطهير في حد ذاته ليس غاية، بل وسيلة لتحقيق هدف أسمى. والحب لا يكون حبًا حقيقيًا إذا كان يتطلع إلى مكافأة، كما يُقال: "من يحاول أن يكون قديسًا ليكون سعيدًا فهو بالتأكيد ليس كذلك." ومن هنا يتضح أن النعيم والسعادة ليسا بالضرورة مترادفين، فالسعي إلى القداسة يسبق الشعور بالراحة أو اللذة الشخصية.
وبناءً عليه، يمكننا القول إن المتصوف المسيحي هو من يجعل هدف حياته التحول إلى شبه من خُلق على صورة الله. فغايته الكمال، وكل الوسائل التي يجد لها مكانًا في الحياة الدينية ليست إلا أدوات لتحقيق هذا الهدف الأسمى. وبكلمة واحدة، المتصوف المسيحي هو من في المسيح وفيه المسيح، جامعًا بين الحياة الداخلية العميقة والاتحاد الحقيقي مع الله.
ومن اللافت أن المسيح المقيم في الإنسان، بالنسبة للمتصوف العاقل، هو نفسه المسيح المقيم في الكون، الذي تتماسك فيه كل الأشياء. فهو يؤمن بالوظائف الكونية للّوجوس الإلهي، ويعتبر هذا العامل ضروريًا في تكوين المتصوف الحقيقي والعقلاني لسببين: أولًا، لتجنب سوء الفهم الذي يشير إلى أن "الدين التجريبي" يعادل التصوف؛ ثانيًا، لتوضيح الفرق بين التصوف الطبيعي والتصوف المسيحي، وضمان فهم التصوف المسيحي في عمقه الروحي والأصلي.
ولكي تكتمل الصورة وتزداد إشراقًا، نقدم للقراء الأعزاء في الأسبوع المقبل قراءة دقيقة لكتاب "An Introduction to Christian Mysticism"، الذي تناول هذا الموضوع بأسلوب ثاقب وعمق فكري وروحي استثنائي. وقد أضفى على هذا النص روحًا جديدة وأصالة لا تضاهى الدكتور كرم عباس من خلال ترجمته المتقنة تحت عنوان "مقدمة في التصوف المسيحي"، التي لم تقتصر على نقل الكلمات فحسب، بل امتدت إلى نقل الفكر والمعنى والحياة الروحية الكامنة فيه. بفضل هذه الجهود، يصبح الكتاب جسرًا حقيقيًا بين القارئ ومصدر التجربة الأصلية، بلغة واضحة وبلاغة راقية تلمس الروح وتفتح آفاق الفهم، لنكتشف المعنى الحقيقي للتصوف المسيحي.
[email protected]