رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي

في لحظة تتقاطع فيها حدود المعرفة مع الإمكانات التكنولوجية، يشهد علم الفلك في العالم العربي مسارًا تصاعديًا يتجاوز مجرّد التطوير العلمي أو الأكاديمي، ليمثل انخراطًا استراتيجياً في أحد أعقد ميادين الاستكشاف الإنساني والمتمثل في فهم البنية العميقة للكون. هذا الانبعاث الجديد، الذي تُغذّيه خوارزميات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، لا يعبّر فقط عن تَقدُّم في أدوات الرصد والتحليل، بل يكشف عن تحوّل جوهري في المنهجية الكونية نفسها، حيث تندمج الرياضيات الحاسوبية بالأسئلة الفلسفية الكبرى.
لقد دخل علم الفلك اليوم طورًا جديدًا يُشبه ما يمكن تسميته بـ'الثورة الكوبرنيكية الثانية'، والتي تشير إلى التحوّل النوعي الذي أحدثته الثورة الأولى حين نُزعت الأرض من مركز الكون، بينما تُعيد الثورة الحالية عبر الذكاء الاصطناعي نزع الإنسان من مركز المعرفة، ليستبدله بخوارزميات تستنبط أسرار الكون بوتيرة تفوق قدرة العقل البشري الفردي. 
من خلال الذكاء الاصطناعي، لم يعد الفلك علمًا يتغذى على الملاحظة وحدها، بل صار علمًا استقرائيًا هائل السرعة، يعتمد على اكتشاف الأنماط الخفية عبر مليارات البيانات المتدفقة من التلسكوبات والمراصد الأرضية والفضائية. هذه النقلة المفاهيمية تفتح الباب أمام قراءة غير مسبوقة للكون، لا تقوم على ما يُرى بالعين المجردة، بل على ما يُستنتج بالعقل المُعزز بالحوسبة الذكية.
في السياق العربي، لم يعد الطموح العلمي حبيس غرف الدرس أو أوراق البحوث، بل تحوّل إلى سياسات مؤسسية واضحة، انعكست في تأسيس مراصد فلكية متطورة، وتوسيع برامج التعليم والبحث المرتبطة بعلم الكونيات، وفتح قنوات تعاون مع مراكز بحوث دولية. هذا الحضور لا يُقاس فقط بعدد المشاريع أو المقالات المنشورة، بل بما يُمثله من استعادة للدور التاريخي للعقل العربي، الذي كان في لحظات مضيئة من الماضي أحد أعمدة التقدُّم العلمي الكوني.
في مراكز البحث العالمية مثل مركز الفيزياء الفلكية الحاسوبية في نيويورك، بدأ الذكاء الاصطناعي يُستخدم لحساب المعايير الكونية الأساسية، كعمر الكون، وطبيعة المادة المظلمة، وسرعة توسع الكون. هذه الحسابات كانت تتطلب سابقًا عقودًا من الرصد والمراجعة، لكنها الآن تتم خلال أسابيع بفضل أنظمة التعلم الآلي العميق. وهو ما نقل علم الفلك من الاعتماد على النظريات الحدسية إلى الاعتماد على المعالجة الكمية واسعة النطاق.
من أحدث الأمثلة على هذا التوجه، الدراسة التي عرضت في المؤتمر الوطني لعلم الفلك عام 2023، حيث استخدم باحثون من جامعة كيل البريطانية خوارزميات التعلم الآلي لتحليل بيانات أكثر من ستة آلاف نجم، ما أتاح إمكانية ربط تركيب سطح النجم، وخاصة تركيز الليثيوم، بعمره الحقيقي. هذه التقنية لا تُحسن الدقة العلمية فقط، بل تُغير من الطريقة التي نصنّف بها النجوم ومراحل تطورها.
وفي أبريل 2024، أعلن فريق من جامعة نورث وسترن بالتعاون مع مؤسسات بحثية أخرى عن تطوير نظام ذكاء اصطناعي قادر على ترميم وتحسين الصور الفلكية بنسبة تصل إلى 38%، مقارنة بالتقنيات التقليدية. لم تكن هذه مجرد إنجاز تقني، بل خطوة نحو تجاوز القيود البصرية للتلسكوبات الأرضية، ليمنح الفلكيين أدوات رصد كانت حكرًا على البعثات الفضائية الباهظة التكلفة.
أما على مستوى المشهد العربي، فتتجه الجامعات والمؤسسات العلمية إلى إدماج الذكاء الاصطناعي في برامجها البحثية، سواء في تحليل البيانات الطيفية، أو تصنيف المجرات، أو التنبؤ بالظواهر الكونية النادرة. وقد بدأت بعض الدول في إدراج مقررات تربط بين الحوسبة الفلكية والذكاء الاصطناعي ضمن برامجها الجامعية، في مؤشر على التحول من الاستهلاك المعرفي إلى إنتاج النماذج والخوارزميات.
إن ما نرصده اليوم لا يمكن حصره كتطورات تقنية معزولة، بل هو تحول فلسفي في معنى المعرفة ذاتها. فالذكاء الاصطناعي، حين يُسخّر لاستكشاف السماء، لا يُنتج فقط نتائج علمية، بل يُعيد تشكيل العلاقة بين العقل الكوني والعقل البشري. وفي هذا السياق، تكتسب جهود الباحثين العرب بُعدًا حضاريًا؛ فهي تستهدف اللحاق بالركب العالمي من جهة، ومن جهة أخرى، تطرح سؤالًا عن الدور المعرفي للمنطقة في إنتاج تصوّر جديد للكون.
من الناحية الاستشرافية، من المنتظر أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى المحرك الأساسي لاكتشافات العقد المقبل. فعبر المركبات الفضائية ذاتية القيادة، ونماذج المحاكاة الفلكية فائقة التعقيد، سيُصبح من الممكن اختبار فرضيات كونية لم يكن التلسكوب أو العقل البشري قادرًا على ملامستها منفردًا. وسينبثق من هذا المشهد جيل جديد من العلماء، لا يعرف الفاصل بين الفيزياء النظرية، والرياضيات التطبيقية، والهندسة الحوسبية.
ولعل السؤال الأكثر عمقًا الذي يطرحه هذا التقدُّم المتسارع هو عن موقع الإنسان في كون باتت ألغازه تُحلّ بالخوارزميات، وعما إذا كنا أمام مرحلة تتراجع فيها قدرة الفرد على التأمل الكوني لحساب قدرة النماذج التنبؤية؟ أم أن الذكاء الاصطناعي سيُعيد تشكيل معنى التأمل نفسه، ويوسّع مداركنا إلى أفق لم يعد محصورًا في المدار البشري؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة ليست مهمة علماء الفلك وحدهم، بل هي مهمة المجتمع بأسره ليقرّر أن ينهض من جديد إلى مدارات المعرفة العليا، حيث يكون للخيال والعقل والتحليل مكان متكافئ، يُنتج به رؤية جديدة للكون... ولذاته.