قطوف
سند الحارة

من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع..
هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.
"سمية عبدالمنعم"

في الحارة الضيقة المتفرعة من شارعٍ عتيقٍ في قلب المدينة، حيث البيوت متلاصقة كأنها تتساند خوفًا من الانهيار، عاش الحاج سالم، الرجل الذي تجاوز الستين وما زال يحتفظ بخطواتٍ ثابتة وصوتٍ أجش يعلو فوق صخب العيال. كان يملك دكّانًا صغيرًا، يبيع فيه السجائر واللبان وكيسين من البقوليات لا يبارحان مكانهما منذ شهور.
الحارة تعرفه جيدًا: الرجل الذي لم يتزوج قط، والذي ينام على حصيرة من سعف النخيل خلف الدكان. يقولون إن قلبه معلّق بحكاية قديمة، فتاة من الحارة نفسها، رحلت منذ أربعين عامًا إلى مدينة أخرى ولم تعد. لكنه لا يذكرها، ولا يبوح بسرها، إنما يُلقي بنصف ابتسامة حين يسأله أحد:
ـ "ليه ما اتجوزتش يا حاج سالم؟"
فيرد بجملةٍ واحدة: "اللي راح خلاص راح".
أهل الحارة اعتادوا حضوره مثلما اعتادوا رائحة المجاري الطافحة عند أول الشارع. الأطفال يلعبون أمام دكانه، وإذا اختلفوا، كان يكفي أن يزمجر صوته: "كفاية!". العيشة مش ناقصة خناقات!"، فيتوقفون كأن على رؤوسهم الطير.
ذات مساءٍ شتوي، هبطت الحارة ضيفة جديدة: "صفية"، امرأة في منتصف الأربعينيات، مطلقة ولها بنت صغيرة اسمها منى. جاءت من بيت أبيها بعد أن ضاقت بها الحال، واستأجرت غرفةً على السطح في بيت المعلم شحاتة. منذ اليوم الأول، لاحظها الحاج سالم وهي تحمل الطست المملوء بالغسيل فوق رأسها، وخطوتها الواثقة تقول إنها عركت الدنيا.
صفية لم تكن كغيرها من نساء الحارة. كانت ترد السلام بصوتٍ واضح، وترفع عينيها في وجه من يكلّمها بلا خوف. حتى وهي تبيع بعض الكعك الذي تخبزه بيديها لتصرف على ابنتها، كانت تقف عند مدخل البيت شامخة، كأنها تقول للناس: "أنا هنا… ولن أنكسر".
شيئًا فشيئًا، صارت تمر على دكان الحاج سالم لتشتري كيس سكر أو سيجارة واحدة ملفوفة في ورق جرائد. لم يكن يتكلم كثيرًا، لكنه بدأ يطيل النظر إليها من طرف عينه. كان يرى فيها شيئًا من ماضيه البعيد، من تلك الفتاة التي لم تعد.
أما منى، فقد وجدت في الحاج سالم أبًا بديلًا. كانت تجلس أمام دكانه كل عصر، تحكي له ما حدث في المدرسة، وتطلب منه أن يعلّمها لعبة الطاولة. وهو، رغم قسوته الظاهرة، كان يلين أمام براءتها. صار يحتفظ بقطعة حلوى لها في جيبه، ويضعها في يدها سرًا كي لا تراها أمها.
الحارة بدأت تتهامس:
ـ "إيه رأيك يا خالة زينب؟ مش باين إن الحاج سالم متعلق بالست صفية؟"
ـ "يا ريت… يمكن تفرج عليه، الراجل عايش لوحده زي الشجرة اليابسة."
لكن الدنيا لم تكن رحيمة كما تمنى الجيران. فزوج صفية السابق، الذي تركها وراح، عاد يطالب بابنته. جاء ذات ليلةٍ مخمورًا، يطرق الباب بقبضة غاضبة ويصرخ: "عايز البنت… دي بنتي!". ارتجفت الحارة كلها على صوته، وخرج الناس من بيوتهم يتفرجون.
صفية وقفت في المدخل كالصخرة، تمنعه من الدخول. لكنه دفعها حتى كادت تسقط. هنا ظهر الحاج سالم، بعصاه الغليظة، ووقف بينهما:
ـ "البنت مش هتخرج من هنا إلا على جثتي!"
لم يجرؤ الرجل المخمور على الاقتراب أكثر، إذ اجتمع شباب الحارة وطردوه شر طردة. لكن تلك الليلة كانت فاصلة: صفية جلست تبكي على عتبة البيت، ومنى تحتضنها. أما الحاج سالم، فقد جلس صامتًا أمام دكانه، يدخن سيجارته وينفث دخانًا ثقيلاً.
في اليوم التالي، وجدته صفية واقفًا على غير عادته، يرتب بضاعته القليلة. نظر إليها طويلًا، ثم قال بصوتٍ مبحوح:
ـ "يا صفية… الدنيا مش سايبة، ولازم الواحد يكون ليه سند."
أطرقت برأسها ولم ترد. لكنه تابع:
ـ "أنا طول عمري سايب الدنيا تعدي، من غير زواج ولا عيال… يمكن ربنا بعتك عشان تقوليلي لسه في وقت."
كلماته وقعت في قلبها كالنبع الدافئ. لم تجبه يومها، لكنها صارت تقف عند دكانه أكثر من ذي قبل، تحدثه عن حياتها، وعن أحلامها الصغيرة: أن تكبُر منى وتدخل الجامعة، أن تفتح مخبزًا لها ولابنتها، أن تعيش بسلام. وكان هو يصغي، يهز رأسه، ويرد بين الحين والآخر: "كل ده يحصل… لو عندك صبر."
مرت شهور، وأصبح مشهد صفية ومنى مع الحاج سالم مألوفًا للحارة: كأن القدر أعاد رسم عائلةٍ جديدة. لكن المفارقة أن الحاج سالم، الذي عاش عمره كله بلا سند، صار هو السند.
وفي إحدى ليالي رمضان، بينما الزينة تتدلى من الشبابيك ورائحة الفول تفوح من البيوت، خرج صوت المؤذن لصلاة العشاء، فسمع الناس همهمة غير معتادة. اقتربوا من الدكان فوجدوا الحاج سالم جالسًا على كرسيه، رأسه مائل كأنه نائم. لكن السيجارة سقطت من يده، وعيناه مغمضتان إلى الأبد.
صفية صرخت، ومنى بكت بجوار جسده الصامت. أما أهل الحارة، فوقفوا في خشوعٍ حزين، كأنهم فقدوا واحدًا من أعمدة المكان. لم يترك وراءه بيتًا ولا مالًا، لكنه ترك ذكرى حية في قلب امرأةٍ وجدت فيه الأمان، وفي قلب طفلةٍ وجدَت فيه الأب الذي لم تعرفه.
وفي اليوم التالي، حين حملوا جثمانه إلى المقابر، سارت الحارة كلها خلفه. كانت صفية تمسك بيد ابنتها وتبكي، لكن بين الدموع ارتسمت على وجهها ابتسامة صغيرة… ابتسامة تقول إن الحاج سالم، رغم كل شيء، لم يمت وحيدًا.