ثروت عبداللطيف يكتب: مظاهر السلام في نهج رسول الإسلام

في زمنٍ كثُرتْ فيه الحروبُ والنِّزاعاتُ، وساد فيه ظُلمُ الإنسانِ لأخيهِ الإنسانِ، وأصبح القتلُ وسفكُ الدِّماءِ عنوانَه، وارتفعتْ فيه أصواتُ الثكالى والأيتامِ، وشكا فيه الشجرُ والحجرُ؛ ما أحوجَ الإنسانيَّةَ إلى نَهجِ رسولِ الإسلامِ في عصرٍ افتُقِدَ فيه السَّلامُ.
لقد بُعِثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في جاهليَّةٍ حالكةٍ، كان الظُّلمُ فيها سائدًا، فلا حُرمةَ لنفسٍ، ولا رعايةَ لحقٍّ، ولا إنصافَ لضعيفٍ، بل الغلبةُ للقويِّ وحدَه، فجاء رسولُ الإسلامِ بالسلامِ، ليُرسيَ أُسُسَ الحقِّ والعدلِ والمساواةِ، وينصرَ الضَّعيفَ، ويُعلِي قيمةَ الإنسانِ، فلا فرقَ بين سيِّدٍ وعبدٍ، ولا بين غنيٍّ وفقيرٍ، ولا بين أبيضَ وأسودَ، وإنَّما الفارقُ بينهم الدِّينُ والتقوى.
وعليهِ، فإنَّ النَّاظرَ في الشريعةِ الإسلاميَّةِ وما جاء بهِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يجدُ ملامحَ السَّلامِ في كافَّةِ تشريعاتِها، فها هو ذا النَّبيُّ يأمرُ بالمبادرةِ بتحيَّةِ الإسلام: «السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه»، وهي تحيَّةٌ تُقِرُّ السَّلامَ قولًا وفعلًا، ويترجمُ هذا التوجيهَ قولُه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «لا تدخلوا الجنَّةَ حتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا، ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السَّلامَ بينكم» [رواه مسلم]، فالمبادرةُ بالسَّلامِ تُؤدِّي إلى التَّحابِّ بين النَّاسِ، والتَّحابُّ سبيلٌ إلى الإيمانِ، والإيمانُ طريقُ الجنَّةِ.
ولم يقتصرْ أمرُه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بالسلامِ على المسلمِ وحدَه، بل تعدَّاهُ إلى غيرِ المسلمِ إذا لم يكنْ محاربًا، فنقولُ له: «السَّلامُ على منِ اتَّبعَ الهُدى»، وهي التحيَّةُ التي بدأ بها رسولُ اللهِ رسائلَهُ إلى الملوكِ حين دعاهم إلى الإسلامِ، فكان السَّلامُ فاتحةَ الخطابِ.
ومظهَرٌ آخرُ جليلٌ من مظاهرِ السَّلامِ في سيرةِ خيرِ الأنامِ، تلك الوثيقةُ الذَّهبيَّةُ: وثيقةُ المدينةِ، التي أقَرَّتْ حقَّ المواطنةِ، وأرستْ أساسًا راسخًا للسلامِ وحقوقِ الإنسانِ، فسبقتْ كلَّ المواثيقِ والمعاهداتِ، وقد خُلِّدتْ عبارتُها الملهمة: «لهم ما لنا، وعليهم ما علينا»، فإذا عرف كلُّ إنسانٍ حقَّه وواجبهُ، سادَ السَّلامُ وعمَّ الوئامُ، بل يمتدُّ هذا المبدأُ إلى العلاقاتِ بين الدُّولِ؛ فإذا ما التزمت كلُّ دولةٍ بما لها وما عليها تجاهَ الأخرى، فأينَ يجدُ النِّزاعُ أو الحربُ سبيلَه؟
بل حتَّى في أوقاتِ الحربِ – إذا اضطُرَّت الأمَّةُ إليها – كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقفُ على رأسِ الجيشِ فيوصيهم: «انطلِقوا باسمِ اللهِ، وباللهِ، وعلى مِلَّةِ رسولِ اللهِ، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلًا، ولا صغيرًا، ولا امرأةً، ولا تَغُلُّوا، وضُمُّوا غنائمَكم، وأصلحوا وأحسِنوا؛ إنَّ اللهَ يحبُّ المُحسِنين» [رواه أبو داود]، فالنَّبيُّ – وهو المبعوثُ رحمةً للعالمين – ينهى عن قتلِ الأطفالِ والشيوخِ والنِّساءِ، فيسبقُ بذلك المواثيقَ العالميَّةَ في منعِ جرائمِ الحربِ ورعايةِ الضُّعفاءِ، ويُؤسِّسُ لمبدأ السَّلامِ حتَّى في أشدِّ ساعاتِ الحربِ، فإذا حُفِظَ الضَّعيفُ والطفلُ والشيخُ، كان ذلك أدعى لخفضِ مشاعرِ الحقدِ والكراهيةِ، وأقربَ لوضعِ الحربِ أوزارَها، وعودةِ السَّلامِ.
ومظاهرُ السَّلامِ في شريعةِ الإسلامِ كثيرةٌ لا تُحصى؛ فإنَّ مقاصدَها الكُليَّةَ تهدفُ إلى إقامةِ العدلِ والمساواةِ، وصيانةِ الحقوقِ، وتحميلِ الإنسانِ مسؤوليَّاتِه وواجباتِه، وهي تسعى إلى أن يأمنَ الإنسانُ على نفسهِ ودينِه وعقلِه ومالِه ونسلِه، فإذا حَظِيَ بهذه الحمايةِ عاش آمنًا مطمئنًّا، فكما حرَّم الإسلامُ على المسلمِ أن يعتدي على نَفْسٍ أو دِينٍ أو مالٍ أو نَسْلٍ لغيرِه، حرَّم كذلك على غيرِه أن يعتديَ عليه، وبهذا يتحقَّقُ الأمانُ، وهو أساسُ السَّلامِ.
وخِتامًا، فما أحوجَ البشريَّةَ اليومَ إلى أن تستقيَ من هذا النَّهجِ القويمِ تلك المعاني العظيمةَ والقيمَ السَّاميةَ المملوءةَ بالرَّحمةِ والأمنِ والعدلِ والمساواةِ؛ فإذا ما عمَّتْ هذه القيمُ، نَجَتِ الإنسانيَّةُ، وعاشتْ في ظلِّ رايةِ السَّلامِ.
بقلم د. ثروت عبداللطيف عضو مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية