إسرائيل تهدد بحرمان القارة من صاروخها القاتل.. و«درع السماء» عل( حافة الانهيار
غضب غــــزة يشق صفــــوف أوروبـــا

تواجه أوروبا أزمة متصاعدة تهدد أكبر مشروع دفاعى قارى منذ عقود، وهو مشروع «درع السماء» الذى أطلقته ألمانيا بهدف إقامة شبكة دفاع جوى عملاقة تحاكى القبة الحديدية الإسرائيلية. هذه المبادرة، التى تمتد طموحاتها من تركيا إلى فنلندا وتشارك فيها 24 دولة أوروبية، تهدف إلى تعزيز أمن القارة فى مواجهة التهديدات الروسية المتنامية. غير أن الحرب المستمرة فى غزة وتصاعد الغضب الشعبى والسياسى تجاه إسرائيل أدخلا المشروع فى مأزق استراتيجى خطير قد يقوضه من أساسه.
يقوم المخطط على الاعتماد على أنظمة دفاع متعددة المستويات، تشمل بطاريات «باتريوت» الأمريكية وأنظمة «أيريس-تي» الألمانية، بالإضافة إلى صواريخ «حيتس 3» الإسرائيلية التى تعد حجر الزاوية فى المنظومة باعتبارها قادرة على اعتراض الصواريخ الباليستية الأسرع من الصوت خارج الغلاف الجوى. «حيتس 3»، وهو مشروع مشترك بين إسرائيل والولايات المتحدة، يُعتبر النظام الأول من نوعه عالميا المخصص لمواجهة التهديدات الفائقة السرعة. لكن مشاركة هذا النظام فى المشروع الأوروبى باتت موضع تساؤل مع اتساع الهوة بين تل أبيب وعواصم أوروبية رئيسية بسبب رفض إسرائيل وقف حربها فى غزة.
ووجد الأوروبيون الذين أوقفوا صادرات السلاح إلى إسرائيل، وفى مقدمتهم ألمانيا، أنفسهم فى مواجهة ضغوط داخلية متزايدة لقطع أو تقليص التعاملات التجارية.حيث دعت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية بشكل علنى إلى تعليق بعض أوجه التعاون مع تل أبيب، بينما تسارعت التحركات الدبلوماسية فى عدد من العواصم نحو الاعتراف بدولة فلسطين كخطوة للضغط على الحكومة الإسرائيلية.
من جهتها تمتلك اسرائيل ورقة ضغط قوية عبر سيطرتها على تراخيص تصدير «حيتس 3»، حيث يتطلب الأمر موافقة هيئة مراقبة الصادرات الدفاعية «ديكا» المسئولة عن التوقيع على صفقات الأسلحة المنتجة محلياً. هذه الصلاحية تمنح تل أبيب قدرة على عرقلة المشروع الأوروبى بأكمله فى حال قررت منع تصدير الصواريخ.
وبحسب تقرير نشرته التليجراف أكد ديفيد هينينغ، مدير المركز الأوروبى للاقتصاد السياسى الدولى، أن القرار قد يكون سياسياً بامتياز، مضيفاً أن إسرائيل قادرة على وقف صادراتها من الصواريخ إذا رأت أن أمنها القومى مهدد نتيجة الضغوط الأوروبية. فى المقابل، حذر عاموس يادلين، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وأحد قادة القوات الجوية سابقا، من أن قطع التعاون مع أوروبا سيضر بالعلاقات الثنائية، لكنه لم يستبعد اللجوء إلى ذلك الخيار إذا تمادت برلين وحلفاؤها فى اتخاذ خطوات تؤثر مباشرة على المصالح الأمنية الإسرائيلية. وأضاف: «لم نصل إلى هذه المرحلة بعد، ويجب على الجانبين بذل كل ما فى وسعهما لتفادى الوصول إليها».
ورغم انتقاداته، وصف يادلين ألمانيا بأنها «من أقرب وأهم حلفاء إسرائيل»، داعيا الحكومة الإسرائيلية إلى الحفاظ على التعاون مع برلين فى مختلف المجالات. غير أن التوترات مستمرة فى التصاعد. ففى الأشهر الأخيرة تحول العديد من الحلفاء التقليديين لإسرائيل فى أوروبا إلى منتقدين علنيين لسياساتها. فون دير لاين استغلت خطاب حالة الاتحاد أمام البرلمان الأوروبى لإعلان تجميد المدفوعات الموجهة إلى تل أبيب، فيما اتهم المستشار الألمانى، الذى كان من أوائل القادة الذين زاروا إسرائيل عقب هجمات السابع من أكتوبر، حكومة نتنياهو بأنها تسببت فى «مجاعة مصطنعة» فى غزة وتعمل على تقويض حل الدولتين.
الأمر لم يتوقف عند ألمانيا، حيث دفعت الضغوط داخل الاتحاد الأوروبى إلى حث الدول الأعضاء على التوصل إلى «أغلبية» تسمح بتعليق بعض البنود التجارية فى الاتفاقات مع إسرائيل وفرض عقوبات على وزراء متشددين ومستوطنيها. كما طُرحت مقترحات لتعليق مشاركة إسرائيل فى برنامج الأبحاث الأوروبى «هورايزون».
وفى لندن، صرح زعيم حزب العمال كير ستارمر بأن المملكة المتحدة ستعترف بالدولة الفلسطينية حال فشلت إسرائيل فى وقف إطلاق النار وتسريع وصول المساعدات إلى غزة. من المتوقع أن تنضم عشرات العواصم الأوروبية والعالمية إلى خط الاعتراف هذا خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبل.
فى السياق تزايد عدد الدول الأوروبية التى فرضت قيودا على صادرات الأسلحة لإسرائيل. ألمانيا توقفت عن إصدار التراخيص منذ العام الماضى، بينما اتخذت سلوفينيا خطوة أبعد بفرض حظر كامل على تصدير السلاح إلى تل أبيب، لتصبح أول دولة أوروبية تتبنى هذا الإجراء.
وجاء رد الفعل الإسرائيلى سريعا، حيث اتهمت الحكومة العواصم الأوروبية بمعاداة السامية والتواطؤ مع حركة حماس عبر الضغوط الدبلوماسية. وزير الخارجية جدعون ساعر اتهم فون دير لاين بترديد «الدعاية الكاذبة لحماس»، محذرا من أن الرسائل الأوروبية «تعزز المحور المتطرف فى الشرق الأوسط».
ورغم هذا التوتر، فإن القادة الأوروبيين يدركون أن الحاجة إلى تعزيز الدفاعات الجوية لم تكن أكثر إلحاح مما هى عليه الآن. الأسبوع الماضى شهد خرق نحو 20 طائرة مسيرة روسية المجال الجوى البولندى، وهو ما دفع مقاتلات حلف الناتو للتدخل داخل أراضيه لأول مرة فى تاريخه الممتد 76 عاماً. الحادثة وقعت بينما كانت فون دير لاين تستعد لإلقاء خطابها السنوى فى ستراسبورغ، لتصفها بأنها «انتهاك متهور وغير مسبوق»، داعية إلى بناء «جدار مضاد للطائرات بدون طيار» كخط دفاع أساسى.
وأكد مانفريد ويبر، زعيم حزب الشعب الأوروبي» أن فكرة إنشاء قبة دفاعية صاروخية «من فنلندا إلى اليونان» باتت ضرورة منطقية، مشيرا إلى أن المشروع سيشمل نظام مراقبة جوى مستقل عن واشنطن، ما يعزز من استقلالية القارة الدفاعية. ووصف المبادرة بأنها «قبة حديدية أوروبية» متكاملة مع حلف الناتو.
فى مدينة ويركى البولندية، حيث سقطت إحدى الطائرات الروسية بدون طيار، قال رئيس البلدية أن النظام الدفاعى المقترح كان سيساعد فى طمأنة السكان. وأضاف أنه اضطر لإغلاق المدارس وإلغاء الدراسة ليوم كامل بعد الانفجار، مؤكداً أن أى تعزيزات دفاعية مثل نشر بطاريات باتريوت أو رادارات متقدمة ستزيد من إحساس الأهالى بالأمن.
لكن التحدى الأكبر يكمن فى غياب صواريخ «حيتس 3»، فبدونها ستظل المنظومة الأوروبية عاجزة عن مواجهة الصواريخ فائقة السرعة. فبينما يستطيع «باتريوت» اعتراض بعض المقذوفات ضمن مدى يصل إلى 100 كيلومتر، إلا أن فعاليته تتراجع أمام الصواريخ الأسرع. أما نظام «أيريس-تي» الألمانى فلا يتجاوز مداه 40 كيلومترا، فى حين أن النظام الأرضى المتنقل «سكاى رينجر» الذى تطوره شركة «راينميتال» يقتصر على حماية المساحات الصغيرة ضد الطائرات المسيرة.
وقدر تقرير حديث صادر عن وكالة بلومبرج أن تكلفة بناء هذا الدرع الجوى القارى ستبلغ نحو 200 مليار دولار، وهو مبلغ هائل يزيد من تعقيد المشروع فى ظل التوترات السياسية مع إسرائيل. وبذلك يصبح مصير «درع السماء» معلقاً بين خيارين إما أن تتوصل أوروبا وتل أبيب إلى تسوية سياسية تحفظ التعاون الدفاعى، أو أن يتحول المشروع إلى ضحية إضافية من ضحايا حرب غزة المستمرة.