ليس من المبالغة القول إن العالم العربي يعيش في لحظة دقيقة تتقاطع فيها التحولات الديموغرافية، والضغوط المناخية، والتحديات الاقتصادية، مع معضلة هيكلية تمسّ عمق أمنه الاستراتيجي المتمثل في الغذاء. ومع اتساع الفجوة بين ما تنتجه الأرض العربية وما تستهلكه شعوبها، بدأ التفكير الجاد يتجه صوب ما يمكن تسميته بـ"الامتداد الزراعي الجغرافي"، أي الاستثمار في الأراضي الزراعية الخصبة خارج الحدود الوطنية، بغية تقليص التبعية الغذائية، وضمان تدفق مستقر للمواد الخام إلى صناعات غذائية عربية باتت هي الأخرى رهينة لاستيراد غير مستقر.
إن فكرة الزراعة العربية في الخارج لا تُعدّ مجرد نشاط اقتصادي استثماري، بل هي أداة استراتيجية لإعادة هندسة العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك، وبين الداخل والخارج، في بيئة دولية تشهد تحولات حادة في سلاسل الإمداد وتنافساً متصاعداً على الموارد الزراعية والمائية. وقد بدأت بالفعل دول عربية مثل السعودية، والإمارات، والسودان، ومصر، في عقد شراكات زراعية كبرى مع دول أفريقية وآسيوية تمتلك مزايا مناخية وبيئية قلّ أن توجد في الوطن العربي. هذا التوجّه، وإن كان لا يزال في مراحله الأولى، إلا أنه يفتح آفاقًا جديدة لفهم أوسع وأكثر عقلانية لمفهوم الاكتفاء الذاتي.
يمكن لهذه المشروعات الخارجية أن توفّر إمدادات مستقرة من الحبوب، والبقول، والزيوت النباتية، والسكّر، وهي المواد التي تشكّل القوام الأساسي لسلة الغذاء العربية. في حال إدارتها بفعالية، فإن هذه الزراعات لا تخدم فقط هدف سد الفجوة الغذائية، بل توفر أيضًا المواد الخام الحيوية لقطاعات الصناعات الغذائية، بدءًا من الطحن والتكرير والتجميد، وصولًا إلى التغليف والتوزيع. كما أنها تتيح خيارات أوسع لتنويع مصادر الإنتاج، بدلاً من الاعتماد الأحادي على السوق الدولية أو الإنتاج المحلي المحدود بموارده المائية والأرضية.
ما يجعل هذه الاستراتيجية جديرة بالاهتمام هو أنها لا ترتكز فقط على المحاصيل، بل تنطوي أيضًا على بُعد معرفي وتقني. فالدول العربية، من خلال هذه المشروعات، تدخل في احتكاك مباشر مع أنظمة زراعية أكثر تقدمًا، ما يفتح المجال لنقل التكنولوجيا الزراعية الحديثة، وتطوير أساليب الري والتسميد، وإدارة الأراضي والموارد، مما يعود بالنفع على الزراعة المحلية التي تعاني تاريخياً من تدنّي الإنتاجية وغياب الابتكار.
لكن، في مقابل هذه الإمكانيات الواعدة، تبرز مجموعة من التحديات المعقّدة، التي تحول دون تحقيق الاكتفاء الكامل عبر هذا النموذج. فإقامة مشروعات زراعية ناجحة في الخارج يتطلب رأسمال ضخم، ليس فقط لشراء أو استئجار الأراضي، وإنما لبناء البنى التحتية اللازمة مثل شبكات الري، ومرافق التخزين، ومنظومات النقل، وإدارات متكاملة قادرة على إدارة المخاطر والضبط اللوجستي. أضف إلى ذلك أن العمل في أراض أجنبية يعرّض المستثمر العربي لمخاطر سياسية وقانونية لا يمكن الاستهانة بها، بما في ذلك تغيّر السياسات الوطنية، أو نشوب نزاعات محلية، أو ضعف منظومات الحوكمة في بعض الدول المستضيفة.
وثمّة مسألة لوجستية مركزية تفرض نفسها كذلك، وهي كيفية نقل المنتجات الزراعية بكفاءة وبتكاليف معقولة من مناطق الإنتاج إلى مراكز الاستهلاك والصناعة في العالم العربي. فمن دون بنية تحتية لوجستية متطورة، وسلاسل إمداد موثوقة، تصبح الزراعة الخارجية عبئًا أكثر من كونها حلًّا.
ولا تقل أهمية التحديات المتعلّقة بالتنسيق العربي نفسه. فنجاح هذا النموذج يتطلب رؤية جماعية تتخطى الحسابات القُطرية، وتؤسس لسياسات استثمارية مشتركة، ونُظم معلومات زراعية موحّدة، وهيئات تمويل إقليمية، وآليات لتقاسم المخاطر والعوائد. من غير هذه الرؤية، ستظل المشاريع العربية في الخارج مشاريع منفردة، غير قادرة على إحداث التحوّل البنيوي المطلوب في الأمن الغذائي العربي.
من جهة أخرى، لا يمكن النظر إلى الزراعة الخارجية بوصفها البديل الوحيد. فالصناعات الغذائية في العالم العربي تعتمد على طيف واسع من المواد الخام، كثير منها لا يمكن إنتاجه بالخارج بالكفاءة المطلوبة، كما أن الأسواق العالمية تفرض معايير جودة صارمة، مما يعني أن على المنتجات الخارجية أن تكون قادرة على المنافسة لا من حيث الحجم الكمي، بل من حيث الجودة والاستدامة أيضاً.
في ضوء ما سبق، يبدو أن الحديث عن اكتفاء ذاتي كامل من خلال الزراعة في الخارج يفتقر إلى الواقعية. بل إن ما يمكن السعي إليه هو تحقيق درجة مرتفعة من الأمن الغذائي الذكي، أي مزيج متوازن بين الإنتاج الخارجي والمحلي، مدعوم بسياسات ذكية لإدارة الطلب، وتقليل الفاقد، ورفع كفاءة الاستهلاك.
ولعلّ أحد أكثر الأبعاد إثارة في هذا النموذج هو قدرته على إعادة تعريف مفهوم "السيادة الغذائية" من منطلق أكثر براغماتية. فلم تعد السيادة تعني الانغلاق داخل الحدود الوطنية، بل امتلاك أدوات التأثير والتحكم في مسارات الإنتاج العابر للحدود، من خلال رأس المال، والتكنولوجيا، والمعرفة، والتحالفات الاستراتيجية. هذه النظرة تضع الزراعة في الخارج ضمن إطار أوسع من الرؤية الجيو-اقتصادية التي تربط بين الأمن الغذائي، والسياسة الخارجية، والاستثمار السيادي، والتكامل الإقليمي.
في نهاية المطاف، لا تُقاس أهمية الزراعة العربية في الخارج بقدرتها على إشباع السوق المحلي فقط، بل بقدرتها على فتح أفق تفكير عربي جديد، يتجاوز ردود الفعل الآنية، نحو استراتيجيات تتعامل مع الغذاء كحق سيادي، وكأداة من أدوات الاستقلال الاقتصادي. ومن هذا المنظور، فإن المستقبل الغذائي للعالم العربي لا يُكتب فقط في سهول الداخل، بل أيضًا في أراضٍ بعيدة، تُروى برأس المال العربي، وتُدار بعقل استراتيجي، وتُحصَد كمشروع للنهضة والسيادة معًا.