بين الرجاء والآلم .. مرضى السرطان ينتظرون الموت على أرصفة المستشفيات

«د. خفاجى»: ٩٠٪ من المرضى يتم علاجهم بالجراحة والتشخيص المبكر مفتاح الشفاء
كل يوم تبدأ رحلة آلاف المرضى فى مصر إلى المستشفيات ومراكز العلاج، بعضهم يقطع مئات الكيلومترات، يحمل فى يده تقارير طبية وفى قلبه أمل ضعيف بالشفاء خلف جدران العيادات تختبئ حكايات لا تنتهى عن معاناة، انتظار، وأحياناً يأس، السرطان ليس مجرد مرض يصيب الجسد، بل هو معركة طويلة ومرهقة تبدأ منذ لحظة الشك فى الإصابة، مروراً برحلة التشخيص المليئة بالإجراءات المعقدة، والتحاليل الباهظة، والأشعات المتكررة، وصولاً إلى مواجهة أخرى مع أسعار الأدوية المرتفعة، وقوائم الانتظار الطويلة فى المستشفيات الحكومية.
وفى الوقت الذى يتسلل فيه المرض إلى حياة الأسر بلا استئذان، يجد آلاف المرضى أنفسهم مضطرين للسفر من قراهم النائية إلى القاهرة بحثاً عن فرصة للعلاج، وكثيراً ما يكون بينهم أطفال لا يعرفون معنى المرض، لكنهم يعرفون جيداً معنى الألم.
تزداد أعداد المرضى فى مصر سنوياً، ويعد سرطان الثدى والبروستاتا والرئة والكبد من أكثر الأنواع شيوعاً، ورغم توسع مبادرات الكشف المبكر، إلا أن نسبة كبيرة من الحالات يتم اكتشافها فى مراحل متأخرة، ما يقلل فرص الشفاء ويرفع كلفة العلاج، ومتوسط تكلفة المريض شهرياً قد يتجاوز 10 آلاف جنيه، إذا لم يكن مدرجاً فى برامج العلاج على نفقة الدولة أو التأمين الصحى.

التشخيص المرهق
يبدأ الأمر غالباً بأعراض بسيطة، مثل إرهاق غير مبرر، فقدان وزن، أو آلام متفرقة، لكن الطريق من الشك إلى التأكد ليس قصيراً ويحتاج المريض إلى سلسلة من التحاليل الدموية المتخصصة، وأشعات مقطعية أو بالرنين المغناطيسى، وأحياناً أخذ عينة للفحص، ورغم وجود مراكز متخصصة فى بعض المحافظات، إلا أن كثيراً منها يفتقر إلى الأجهزة الحديثة أو الكوادر الكافية، ما يدفع المرضى للسفر إلى القاهرة أو الإسكندرية لإجراء الفحوص المطلوبة.
حكايات المرضى
فى إحدى عربات مترو الأنفاق، جلست أمامى سيدة أربعينية بعباءتها السوداء، والدموع تنهمر من عينيها، وقبل أن أسألها عن سبب بكائها ومساعدتها رن هاتفها، فأجابت بصوت مبحوح «أيوه يا أبومحمد، الدكتور قالى سرطان» ثم انفجرت فى بكاء مرير مرددة «أسيبكم لمين؟ العلاج منين؟ نجيب فلوسه إزاى؟ ما تقولش حاجة للعيال» كانت كلماتها مثقلة بالحزن والقلق، تعكس حجم الصدمة التى تلقتها، بينما حاول بعض الركاب مساعدتها لكنها رفضت، متمسكة بصمتها حتى وصلت محطتها وغادرت، تاركة خلفها إحساساً عميقاً بثقل المعاناة التى تواجهها.
رحلة علاج
معاناة الحاج محيى الدين مع السرطان.. ترويها زوجة نجله الذى يعيش معه رحلة العلاج، فتقول: ظهر المرض مع والد زوجى بأعراض بدت بسيطة، تنميل فى الذراع وألم فى الرقبة توجه إلى الطبيب، الذى طلب منه إجراء أشعة، لتكشف النتيجة عن إصابته بورم سرطانى فى العمود الفقرى، والأخطر أن هذا النوع من الأورام غالباً ما يكون ثانوياً، أى ناتجاً عن ورم أساسى آخر، وهو ما جعل الأمر أكثر تعقيداً.
وأضافت أن التقارير الطبية أوضحت أن إحدى فقرات العمود الفقرى قد تآكلت بنسبة تجاوزت الثلثين، ما استدعى التدخل الجراحى العاجل لتثبيتها بدعامة وأن التأخير لم يكن خياراً، فاستمرار الوضع كان قد يؤدى لا قدر الله إلى سقوط الرأس وضغطه على الحبل الشوكى، وهو ما قد يسبب شللاً رباعياً دائماً، ولذلك اضطررنا لعمل العملية بتكاليف عالية جداً خارج التأمين الصحى بسبب بطء الإجراءات، وحتى الآن نسدد فى ديون العملية.
لكن بعد العملية وإجراء الفحوصات الإضافية، تبين أن الورم الأساسى موجود فى الكلية وبعد شهر واحد فقط من عملية تثبيت الفقرة، خضع لجراحة أخرى لاستئصال الكلية وإزالة ورم من البروستاتا.
تابعت بعد ذلك، قرر طبيب الأورام المعالج منحه علاجاً على هيئة أقراص تصرف من التأمين الصحى، إذ لا يمكنه الخضوع للعلاج الكيماوى لأن الورم من النوع الدموى لكنه ما زال حتى اليوم يعتمد على هذه الأقراص، ويواجه معاناة إضافية مع إجراءات صرفها، إذ يحتاج ليوم كامل من الإرهاق لاستخراجها من التأمين، ولا يحصل إلا على كمية تكفى لمدة 21 يوماً فقط.
معاناة السفر
تقول أم كريم، سيدة من مركز بنى مزار بالمنيا: «لما الدكتور قال لى ممكن يكون عندى ورم، طلب منى أشعة تبين ما إذا كان التشخيص صحيحاً أو لا، وفى البلد مفيش، واضطررت إلى السفر للقاهرة، دفعت 6 آلاف جنيه فى يوم واحد، ولسه ما بدأتش العلاج».
كثير من المرضى يعيشون فى قرى بعيدة، ما يجعل رحلة العلاج شاقة جسدياً ومادياً بعضهم يضطر للمبيت فى محيط المستشفى، أو العودة فى نفس اليوم بعد انتظار طويل، ما يزيد من إرهاقهم.
سارة البريئة
بدأت رحلة سارة (طفلة ٩ سنوات) قبل عام حين لاحظ والداها تضخماً فى رقبتها، فأخذاها إلى طبيب فى قريتهما طلب الطبيب أشعة وتحاليل لم تتوافر فى المحافظة، فانتقلا إلى القاهرة.
تقول الأم بصوت مرتعش «إحنا مشينا فى مشوار التشخيص نحو ٤ شهور، بين تحليل هنا وأشعة هناك، وكنا بنبات على رصيف مستشفى 57 علشان نلحق دورنا سلمى بتتعذب، بس إحنا بنحاول ندارى عنها كل حاجة».
نفيسة.. أم لثلاثة أطفال
تعمل نفيسة معلمة بمدرسة فى الصعيد، وبدأت رحلتها مع المرض حين اكتشفت إصابتها بسرطان الثدى تقول:
«بعد العملية طلب منى الدكتور علاجاً إشعاعياً وكيماوياً، لكن التأمين الصحى فى محافظتى مش مجهز للعلاج الإشعاعى، واضطريت أروح القاهرة كل أسبوع الطريق متعب، ومرات كتير برجع فى نفس اليوم بعد انتظار طويل من غير أن آخد الجرعة، «أكتر حاجة وجعانى إنى مش عارفة أكون مع أولادى زى الأول، لكن لازم أكمل عشانهم».
بين الأمل والإحباط
تظل المستشفيات الحكومية والتأمين الصحى والمبادرات الرئاسية هى الأمل الأول لمرضى السرطان، لكن الواقع يكشف عن فجوة كبيرة بين الحاجة والإمكانيات، فالأدوية الحديثة، خصوصاً العلاجات المناعية والموجهة، قد تصل أسعارها إلى عشرات الآلاف من الجنيهات شهرياً، ولا تستطيع الدولة توفيرها لجميع المرضى إلا وفق معايير دقيقة وأولوية للحالات المتقدمة، بسبب زيادة الأعداد.

مدير بمعهد ناصر
من جانبه أكد الدكتور أمجد جمال، مدير وحدة العلاج بالأكسجين بمعهد ناصر:
التشخيص المبكر هو مفتاح الشفاء من السرطان الذى لم يعد مرتبطاً بعمر أو فئة معينة، بل أصبح من الأمراض المنتشرة عالمياً بتعدد أنواعه وطرق علاجه، وتشير الإحصاءات إلى أن سرطان الثدى هو الأكثر شيوعاً بين النساء، بينما يتصدر سرطان البروستاتا إصابات الرجال.
ويشرح أن العلامات المبكرة لسرطان الثدى تشمل تغير شكل الحلمة أو مظهرها، والإحساس بكتلة فى أنسجة الثدى، أو ظهور غدد ليمفاوية متضخمة تحت الإبط، وأحياناً تغير فى حجم أو شكل الثدى أما سرطان البروستاتا فتظهر أعراضه غالباً فى الجهاز البولى مثل آلام أسفل الظهر أو الحوض، وصعوبة التبول، وضعف اندفاع البول، أو وجود دم فى البول، إلى جانب فقدان الوزن دون سبب.

ويرى الدكتور جمال أن تأخر التشخيص فى مصر يرجع إلى ثلاثة أسباب رئيسية: إهمال الأعراض المبكرة لضعف الوعى الصحى، صعوبة تحمل تكاليف الفحوصات الدقيقة، والبعد الجغرافى الذى يفرض على المرضى فى المناطق النائية السفر مسافات طويلة للوصول للمراكز المتخصصة، ما يؤدى غالباً لاكتشاف المرض فى مراحل متأخرة ويقلل فرص الشفاء.
ويشير إلى أن معهد ناصر يعد من أهم المراكز الطبية فى مصر لتشخيص وعلاج السرطان، إذ يضم أحدث الأجهزة الطبية وكوادر متخصصة ووحدات متقدمة مثل وحدة العلاج بالأكسجين، التى تساعد على تحسين نتائج بعض الحالات، ويؤكد أن التشخيص المبكر يمنح المريض فرصة أكبر للشفاء، بينما التشخيص المتأخر يزيد من تعقيد العلاج.
طرق العلاج
أما طرق العلاج، فهى تختلف حسب نوع الورم ومرحلة اكتشافه وحالة المريض العامة، وتشمل الجراحة، العلاج الكيماوى، الإشعاعى، المناعى، والعلاجات الموجهة، ويكشف أن تكاليف العلاج قد تصل إلى مئات الآلاف من الجنيهات خاصة فى المراحل المتقدمة أو عند الحاجة لأدوية مستوردة، لكن الدولة توفر العلاج المجانى فى مستشفيات متخصصة مثل معهد الأورام القومى ومستشفى 57357 والمستشفيات الجامعية، إضافة إلى مبادرات خيرية فى بعض المستشفيات الخاصة.
لا داعى للسفر
ويؤكد أن الأجهزة المتوافرة فى المستشفيات الحكومية المتخصصة كافية لتشخيص المرض بدقة، ولا داعى للسفر للخارج لمجرد التشخيص، إذ لا تتجاوز تكلفة الفحوصات المطلوبة فى المراحل المبكرة نحو 2000 جنيه، إلا أن 80% من أدوية السرطان مستوردة، ما يجعل توافرها مرتبطاً بسعر العملة، فيما الإنتاج المحلى محدود. ويشير إلى أن منظومة العلاج على نفقة الدولة لا تغطى جميع المرضى بسبب زيادة الأعداد ووجود قوائم انتظار، كما أن الأدوية توزع على المستشفيات بنظام الحصص، وتحظى مستشفيات القاهرة بالنصيب الأكبر، ما يدفع بعض مرضى المحافظات للسفر إليها.
طرق الوقاية
وعن طرق الوقاية الطبيعية، يوصى الدكتور جمال باتباع نظام غذائى صحى يقلل من استهلاك السكر، نظراً لاعتماد الخلايا السرطانية عليه فى النمو، واستنشاق الأكسجين النقى أو العلاج بالأكسجين تحت ضغط، حيث إن الخلايا السرطانية تنمو فى بيئة فقيرة بالأكسجين.
كما شدد على أهمية ممارسة الرياضة بانتظام، ويشير إلى أن الصيام لمدة 12 ساعة أو أكثر يسهم فى تدمير الخلايا السرطانية وفق أبحاث علمية. ويختتم حديثه بالتأكيد على أن نمط الحياة الصحى الذى يجمع بين الصيام، الغذاء المفيد، تجنب السكر، الرياضة، واستنشاق الأكسجين، قد يكون أكثر فاعلية من الاعتماد الكلى على العلاج الكيماوى الذى يدمر الخلايا السليمة أيضاً. ويرى أن رفع الوعى الصحى، وتشجيع الفحوصات الدورية، والتوجه للطبيب فور ظهور أعراض غير طبيعية، هو خط الدفاع الأول ضد السرطان، فالانتصار على المرض يبدأ من الوقاية والاكتشاف المبكر، لا من غرف العمليات فقط.
العلاج بالجراحة

أكد الدكتور مدحت خفاجى، أستاذ الجراحة بالمعهد القومى الأورام، أن 90% من مرضى السرطان يتم علاجهم بالجراحة، بينما يحتاج نحو 10% فقط للعلاج الكيماوى، والذى يعد العلاج الرئيسى فى حالات سرطان الغدد الليمفاوية وسرطان الدم، فى حين أن العلاجات الأخرى تكميلية ولا تتجاوز نسبة الشفاء بها 6%.
وأوضح أن المضاعفات بعد العمليات الجراحية أمر وارد، لكنها فى معظم الأحيان قابلة للعلاج، وقد تشمل انسداد الأمعاء أو الإصابة بالشلل أو الجلطات الدماغية.
وأشار أستاذ الجراحة إلى أن هناك 3 آلاف نوع من السرطان، بعضها تصل نسبة الشفاء فيه إلى 100% مثل سرطان الحنجرة وسرطان الجلد، بينما تنعدم فرص الشفاء فى أنواع أخرى مثل سرطان الغشاء البلورى، مضيفاً أن طبيعة العلاج ونسبة الشفاء تختلف داخل النوع الواحد من المرض، كما هى الحال فى بعض أنواع الغدة الدرقية العدوانية.
الفحص الدورى
وشدد الدكتور خفاجى على أن التشخيص المبكر يرفع معدلات الشفاء بشكل كبير، مؤكداً أهمية الفحص الدورى للنساء لاكتشاف سرطان الثدى مبكراً، حيث تصاب واحدة من كل 8 سيدات به. ولفت إلى أنه فى عام 1950 كانت نسبة الشفاء الإجمالية 50%، بينما ارتفعت حالياً إلى 67%، موضحاً أن أمراض الدم والغدد الليمفاوية لا تعالج بالجراحة.
وبين أن نجاح العمليات الجراحية يعتمد على اكتشاف المرض فى مراحله الأولى، إذ تكون الجراحة حينها كافية للعلاج ولا حاجة للعلاج الكيماوى كما أن هناك حالات لا يمكن إجراء الجراحة لها بسبب وضعها الصحى الحرج، مثل كبار السن جداً أو مرضى القلب فى مراحل متقدمة، حيث يشكل التخدير خطراً على حياتهم، ويكون العلاج الدوائى هو البديل Conquer.