رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي

رؤية

انتهت الحرب على غزة، توقفت القذائف وسكتت الطائرات بعد جحيم عامين كاملين، لكن هناك حربًا أخرى بدأت فور توقف الأولى، إنها حرب الصهاينة على ذاكرة الفلسطينيين وذاكرة العرب وذاكرة العالم بهدف نسيان الجريمة الوحشية. 

سيحاول الاحتلال الذى دمر القطاع بالكامل وقتل عشرات الآلاف من الأبرياء، تزييف أدلة المجزرة. سيرصد مليارات الدولارات ليزعم أن ما حدث لم يكن إبادة، بل «عملية عسكرية»، وأن البيوت التى تحولت إلى تراب كانت «مخابئ لعناصر حماس». 

إن الدعاية الصهيونية بارعة طوال تاريخها فى تحويل الشهداء إلى إرهابيين، وتحويل الضحايا إلى جناة. لهذا، فإن توثيق الإبادة واجب لا يقل أهمية عن المقاومة نفسها، لأن من يملك الرواية الحقيقية يملك المستقبل. التاريخ لا يكتبه المنتصر فقط، بل من يملك الصور والكلمة والشهادة. إن العالم يتغير بسرعة، ولا يملك ذاكرة طويلة. إن الصور التى هزَّت الضمير الإنسانى اليوم، ستتراجع غداً أمام صور المشاهير أو مباراة كرة قدم أو تحت ضغط ومشاغل الحياة اليومية. 

لقد رأينا مدناً كاملة تُمحى من الخرائط. شوارع بلا أسماء، بيوتاً بلا سقوف، مقابر جماعية تُدفن فيها العائلات. رأينا المستشفيات تتحول إلى رماد، والمدارس إلى أطلال. مئات آلاف النازحين مشوا حفاة وجوعى وجرحى فى العراء. هذه ليست مشاهد من فيلم، بل من واقع يفوق الخيال، وقد حدث ذلك كله أمام الكاميرات، لكن الصور إن لم تُحفظ ويسلط عليها الضوء، يمكن أن تُستخدم لاحقاً ضد أصحابها، خصوصاً أن الدعاية الصهيونية خبيرة فى التزييف وقلب الحقائق.

من هنا، يجب على أحرار العالم أن يكتبوا ويوثقوا كل شيء. الأسماء قبل أن تضيع، والشهادات قبل أن تختلط، والقصص الصغيرة التى تصنع الذاكرة الكبرى. يجب حفظ صوت الأم التى بحثت عن ابنها تحت الركام، وصوت الطبيب الذى عمل أياماً بلا ماء أو كهرباء، وصوت الطفل الذى أفاق فلم يجد ساقه أو ذراعه. كل هذه الأصوات إذا لم نكتبها ونوثقها، ستضيع بلا رجعة.

إن التوثيق ليس عملاً للمؤرخين فقط، بل لكل من شهد أو قرأ أو رأى. الصور التى التقطتها الهواتف، الكلمات المكتوبة على الجدران، المقالات التى وصفت الدمار، كلها وثائق يجب أن نجمعها، نحفظها، ونخرجها إلى العالم بلغاته كلها. الحقيقة لا تنتصر من تلقاء نفسها، وإنما بمن يواظبون على توضيحها من دون كلل ولا ملل.

لقد أثبتت التجارب أن الدعاية الصهيونية لا تكتفى بقتل الأجساد، بل تحاول قتل الذاكرة أيضاً. بعد كل حرب، ينتج الاحتلال وأنصاره أفلاماً وكتباً وتقارير لتبرير الجريمة، ويعيد صياغة الأحداث بلغة «الدفاع عن النفس». فى المقابل، لابد أن يجد الفلسطينى من يروى حكايته، حتى لا يرويها الجلاد الذى تربى على تزوير الحقيقة.

فى زمنٍ يختلط فيه الصواب بالزيف والحق بالباطل، يصبح التوثيق نوعاً من المقاومة، والصورة سلاحاً، والشهادة صوتاً للحق. غزة لا تحتاج أن نبكيها فقط، بل أن نحمى ذاكرتها، لأن الذاكرة الحية لا يمكن أن يسلبها الاحتلال. إننى أناشد كل مؤسسة عربية وعالمية سواء كانت رسمية أم أهلية، أن تحفظ وتوثِّق ما جرى، لأن النسيان هذه المرة سيكون جريمة جديدة.