في قلب الجغرافيا السياسية الحديثة، لم تعد المياه مجرد مورد طبيعي أو سلعة قابلة للتنظيم والتقنين بالسياسات التقليدية، بل تحوّلت إلى عامل حاكم في معادلات الاستقرار الإقليمي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. في العالم العربي، حيث تتقاطع القسوة البيئية مع هشاشة البنى المؤسسية، تتشكّل أزمة الندرة المائية كواحدة من أخطر التهديدات الاستراتيجية التي قد تحدد شكل المستقبل السياسي والاقتصادي للمنطقة بأسرها.
تشهد الدول العربية معدلات ندرة مائية تُعد من بين الأعلى عالمياً، في ظل تمركز أكثر من 85% من مساحاتها في نطاقات جافة أو شبه جافة، وفي وقتٍ يتضاعف فيه الطلب على المياه بوتيرة تفوق معدلات النمو السكاني. ويتفاقم هذا التحدي مع التحولات المناخية، التي لم تعد ظاهرة نظرية، بل واقعًا معيشًا تُعبّر عنه فترات الجفاف الطويلة، وارتفاع درجات الحرارة، واضطراب أنماط هطول الأمطار. كل ذلك يقود إلى معادلة شديدة التناقض؛ من طلب متزايد على مورد يتناقص من حيث الكم ويتدهور من حيث النوعية.
ولا تقتصر الأزمة على البعد الطبيعي أو التغير المناخي فقط، بل تشمل أيضًا أنماط استخدام غير رشيدة للمياه في القطاعات الزراعية والصناعية والحضرية، حيث تُهدر نسبة كبيرة من المياه المتاحة بسبب ضعف البنية التحتية، وتراجع كفاءة أنظمة الري، وغياب أنظمة إدارة متكاملة للموارد. كما تزداد حدة الأزمة بسبب التوترات الجيوسياسية المرتبطة بالأنهار العابرة للحدود، مثل دجلة والفرات والنيل، حيث تتشابك الحقوق المائية مع الحسابات السياسية في بيئة إقليمية مضطربة.
في هذا السياق، أصبحت المياه أداة ضغط بيد بعض الدول، كما تحوّلت إلى مصدر تهديد صامت للأمن القومي في دول المصب، التي تعتمد بشكل جوهري على تدفقات خارج إرادتها السيادية. وقد أظهرت التجربة العربية – في أكثر من حالة – عجزًا بنيويًا عن تفعيل مقاربة جماعية في إدارة الموارد المائية المشتركة. ورغم تبني "الاستراتيجية العربية للأمن المائي" المُحدثة عام 2022، إلا أن غياب آليات الإنفاذ الفعّالة، وتراجع الإرادة السياسية الجماعية، حالا دون تحويل تلك الاستراتيجية إلى قوة فاعلة في المعادلة الإقليمية للمياه.
أما من الناحية التنموية، فإن انعكاسات شح المياه تتجاوز خطر العطش لتطال أساسات الاقتصاد العربي ذاته. فالزراعة، التي لا تزال قطاعًا حيويًا في العديد من الدول العربية، تتعرض لانهيار تدريجي بسبب نقص الموارد المائية اللازمة، ما يهدد الأمن الغذائي ويزيد من الاعتماد على الاستيراد، مع ما يحمله ذلك من هشاشة استراتيجية.
أما القطاع الصناعي، فلا يستطيع أن ينمو في بيئة تفتقر إلى مورد المياه باعتباره أحد مدخلات الإنتاج الأساسية. ويؤثر هذا الاختناق المائي أيضًا على السياحة، والخدمات العامة، ونوعية الحياة في المدن الكبرى، ويقوّض ثقة المواطن بالدولة، ويفتح الباب لتوترات اجتماعية قد تخرج عن السيطرة.
تبدو الحلول التقليدية غير كافية أمام تعقيد الأزمة. صحيح أن عدداً من الدول العربية استثمرت في بناء محطات تحلية المياه، إلا أن هذا التوجّه يصطدم بعقبات مالية وبيئية كبيرة. فعملية التحلية تستهلك كميات هائلة من الطاقة، وتنتج عنها مخلفات تضر بالأنظمة البحرية، كما أنها مُكلفة، ما يجعلها غير مناسبة للدول ذات الموارد المحدودة أو التي تعاني من اضطرابات سياسية. وهذا يفرض التفكير بمنطق أكثر شمولًا، يقوم على توسيع مفهوم أمن المياه ليتجاوز الحلول التقنية إلى تبنّي رؤية هيكلية شاملة لإدارة المياه، تشمل التكنولوجيا، والحوكمة، والتعليم، وتمكين المجتمعات المحلية.
لقد بات من الضروري التوجه نحو سياسات مائية مُتكاملة تستند إلى مفهوم "الدورة الكاملة للمياه"، والذي يعني التعامل مع كل قطرة ماء باعتبارها جزءًا من نظام مُغلق يجب الحفاظ عليه. وهذا يفتح الباب أمام مشروعات غير تقليدية، مثل إعادة استخدام المياه الرمادية، وحصاد مياه الأمطار، وتطوير تقنيات الري الذكية منخفضة الاستهلاك. ويتطلب ذلك أيضاً تطوير منظومة معرفية مشتركة على المستوى العربي، تتضمن قواعد بيانات، ومنصات بحثية، ومؤشرات متابعة دقيقة، من شأنها أن تبني جسور التعاون وتمنع تكرار الجهود وتضاربها.
وفي موازاة ذلك، يفرض الواقع المتسارع ضرورة إنشاء بنية تعاون إقليمي ذات طابع مؤسسي، لا تكتفي بتبادل الخبرات بل تُنتج معرفة استراتيجية مشتركة تُسهم في صناعة قرار جماعي. فالمياه لم تعد شأنًا محليًا محصورًا داخل حدود الدولة، بل أصبحت ساحة لمعادلات القوة، ومجالًا للصراع والصياغة الجيوسياسية. وبالتالي، فإن بناء مصفوفة تنسيقية فعالة بين الدول العربية في مجال المياه، لا يُعد رفاهية دبلوماسية، بل شرطًا مسبقًا لأي مشروع تنموي في القرن الحادي والعشرين.
ويبقى من الضروري أن يُعاد تعريف مفهوم الأمن المائي العربي باعتباره ركيزة من ركائز الأمن القومي، وأن تُوضع له الأولوية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. إذ أن الفشل في تحقيق الأمن المائي لن يؤدي فقط إلى اختلال موازين التنمية، بل سيقود إلى أزمات سياسية واجتماعية قد تتخذ طابعًا صراعيًا مفتوحًا في المستقبل القريب.
وفي ختام هذا التحليل، فإن السؤال الذي يطرح نفسه لم يعد مرتبطًا فقط بكيفية إدارة الندرة، بل بكيفية تحويل الندرة إلى دافع لإعادة تصميم العلاقة بين الإنسان والمورد، بين الدولة ومجتمعها، وبين الإقليم وجواره. فالأزمة المائية ليست مجرد معركة فنية تُخاض بخطط هندسية، بل هي معركة رؤية، وحوكمة، وقدرة على استشراف المستقبل من دون الوقوع في فخ المسكّنات أو إدمان الاستيراد المائي. وحدها الدول التي ستمتلك الشجاعة لتغيير الأنماط السائدة، وتبنّي قرارات غير شعبوية لكنها ضرورية، هي من ستحظى بفرصة لعب دور الفاعل في النظام البيئي والاقتصادي الإقليمي المقبل.