إطلالة
في هذا الوقت من كل عام، تحتفل الأمة الإسلامية بذكرى عطرة، تهتز لها القلوب وتدمع لها العيون شوقًا وحبًا وحنينًا. إنها ذكرى مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أعظم خلق الله، وخاتم الأنبياء والمرسلين، الذي أخرج الله به الناس من ظلمات الجهل إلى نور الهداية، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل، وُلد الحبيب المصطفى، فتنفّست مكة هواءً جديدًا، وتفتّحت أبواب الرحمة على الأرض، وارتجّت أركان الكون فرحًا بميلاد من قال الله فيه: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" [الأنبياء: 107].
لم يكن مولده مجرد حدث تاريخي، بل كان بداية لتغير مسار البشرية، وبزوغ شمس الهدى في زمن الظلم والقسوة. وها نحن اليوم، بعد خمسة عشر قرنًا، لا يزال اسمه يصدح في الأذان خمس مرات في اليوم، ويهتف به قلوب الملايين في مشارق الأرض ومغاربها.
كل مؤمن صادق تهفو نفسه إلى مدينة النبي، المدينة المنورة، حيث طَيبة الطيبة، وقبر الحبيب المصطفى. كم من دمعة سالت على خدود العشاق أمام الروضة الشريفة، بمقامه الكريم، ليقولوا: "السلام عليك يا رسول الله". إنها زيارة لا تشبه أي زيارة، ومقام لا يشبه أي مقام. فالروح تهفو، والقلب ينبض حبًا، والعين تفيض شوقًا. كثير من الصالحين قالوا إن أعظم لذة بعد الإيمان بالله، هي الوقوف على قبر النبي وزيارة المدينة المنورة.
وإن لم تتهيأ الأسباب الجسدية للزيارة، فلا تزال أرواح المؤمنين تتمنى رؤيته في المنام، تحقيقًا لما بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي" [رواه البخاري].
وما أجملها من لحظات حين ينعم الله على عباده برؤية نبيهم في المنام، فيطمئن القلب، وتزهر الروح، وتُجدد العهد بالاتباع والمحبة.
الاحتفال الحقيقي بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ليس في الزينة ولا الأناشيد فحسب، وإنما في الاقتداء والاتباع لأفعاله وأقواله.فإن سيرته العطرة، وخلقه العظيم، وجهاده، ورحمته، وتواضعه، وعدله، وصبره، كلها محطات تربوية يجب أن يقف عندها كل مسلم ومسلمة.
قال تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا" [الأحزاب: 21]. من يسير على دربه؟ من يقتفي أثره؟ من يجعل من محمد قدوته في حياته، في بيته، في عمله، في دعوته، في صبره، في نصرته للضعفاء، في حبه للمساكين، في عدله مع أعدائه، وفي حلمه على الجاهلين؟.
والحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن واقع أمتنا اليوم، وخصوصًا قضية فلسطين، التي لم تكن غريبة عن تاريخ النبي، بل كان اليهود والصهاينة منذ عهد النبي هم من قاوموا دعوته، وعادوه، ونقضوا العهود، وكادوا له المكائد.
في المدينة، كان النبي يتعامل مع قبائل اليهود: بني قريظة، وبني قينقاع، وبني النضير. ورغم المعاهدات التي أبرمها معهم، إلا أنهم كانوا دائمًا أول من ينكث العهد، ويغدر، ويتآمر.
واليوم التاريخ يُعيد نفسه. فها هم الصهاينة الغاصبون يحتلون أرض فلسطين، ويقتّلون الأطفال، ويدمّرون البيوت، ويحاصرون أهل غزة، كما حاصروا النبي في شعب أبي طالب، وكما حاولوا قتله في المدينة. فهل نكتفي بالمشاهدة؟ هل نكتفي بالبكاء والدعاء؟ أين الغضب النبوي فينا؟ أين نصرتنا لأهلنا في فلسطين؟
إذا كنا نحب النبي حقًا، فحبنا له لا يُقاس بالدموع فقط، بل بمواقف عملية لنصرة دينه وأمته. وفلسطين اليوم قضية مركزية في ضمير كل مسلم. المسجد الأقصى أولى القبلتين، وثالث الحرمين، مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، يُدنّس ليل نهار من قبل محتل غاصب، لا يرقب في مؤمن إلًّا ولا ذمّة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [رواه البخاري ومسلم].
هل نشعر اليوم بألم أهلنا في غزة؟ هل نتداعى لنصرتهم؟ أم أن المآسي كثرت حتى تبلّدت مشاعرنا؟
لن تكون نصرتنا لفلسطين مجرد شعار، إذا أردنا أن نكون حقًا على خطى النبي، فالنصرة تكون بـتكاتف الدول العربية مع بعضهم البعض ضد هؤلاء الصهاينة، وأضعف الإيمان
الدعاء الصادق في جوف الليل لأهلنا في فلسطين، ودعم الحملات الإغاثية والجهود الإنسانية بكل ما نستطيع. نقاطع المنتجات الصهيونية والداعمة للاحتلال.وننشر الوعي بالقضية في وسائل الإعلام والمدارس والجامعات. ونربي أبنائنا على حب النبي، وعلى حب القدس، وفهم القضية، والتمسك بالهوية الإسلامية، والسير على نهج النبي، لنكون أهلًا للنصر.