لا يُقاس وعي الشعوب بعدد الأصوات المرتفعة ولا بحجم الحشود، بل بقدرتها على التفكير النقدي ومراجعة ما يُعرض عليها. وهنا يتجلى دور المثقف، فهو العين التي ترى أبعد مما تراه الأغلبية، والضمير الذي يذكّر المجتمع بخطورة الانسياق وراء ديناميكية القطيع، حيث يتحول الإجماع إلى قوة عمياء تدفع الجميع في اتجاه واحد، حتى وإن كان ذلك الطريق يقود إلى الهاوية.
ديناميكية القطيع ليست ظاهرة سطحية، بل هي آلية نفسية واجتماعية تتجذر في سلوك البشر. الفرد حين يجد نفسه داخل جماعة ضخمة، يميل إلى الانصياع لا لأن الفكرة صحيحة، بل لأن مخالفة الأغلبية تُشعره بالعزلة والخوف. من هنا يبدأ العقل في التنازل عن دوره، ويتحوّل الإنسان إلى تابع صامت.
لقد برهنت تجارب التاريخ أن الأغلبية قد تخطئ بل وتضلّل نفسها. أمم اندفعت إلى الحروب بدافع الحماسة الجمعية، وأخرى صدّقت الزعامات المستبدة تحت وهم الإجماع الشعبي، فانتهت إلى فقدان الحرية. حتى في الاقتصاد والفكر، كثيرًا ما قادت موجات الأغلبية إلى انهيارات لا إلى نهضات.
هنا يظهر دور المثقف الحقيقي: أن يقاوم صخب الحشود، وأن يضع أمام المجتمع مرآة صادقة تكشف ما يحاول تجاهله. إنه ليس من يسعى وراء التصفيق أو يلهث لإرضاء الجمهور، بل من يوقظ العقل الفردي، ويذكّر الناس أن الحقيقة لا تُقاس بالعدد، بل بالوعي.
في بعدها الفلسفي، فإن مقاومة القطيع تعني حماية جوهر الإنسان من الذوبان. فالحرية ليست أن أقول ما يقوله الجميع، بل أن أملك الشجاعة لأفكر وأختار حتى لو كنت وحيدًا. وهنا يكمن الدور الأخطر للمثقف: أن يظل صوتًا مضادًا حين يسود الصمت، وأن يحفظ للإنسان استقلاله الفكري كشرط لنجاة الجماعة كلها.
الخلاصة أن المجتمعات لا تنهض بالأغلبية الصاخبة، بل بالأقلية الواعية التي ترفض الاستسلام لديناميكية القطيع. والمثقف الحقّ هو القادر على أن يقود هذه الأقلية، لا لمجرد المخالفة، بل لصون العقل من الاستبداد الجماعي، وحماية المستقبل من أخطاء الحاضر.