فى مصر، لا يوجد بيت لم يكتوِ بنار الثانوية العامة. سنوات طويلة عاش فيها الطلاب وأولياء الأمور تحت رحمة امتحان واحد يحدد المصير، ودفتر حسابات ثقيل يبتلع مدخرات الأسر فى دروس خصوصية و«سناتر» عملاقة. ولم يكن غريبًا أن تتحول هذه «الثانوية» إلى كابوس جماعى، يتوارثه جيل بعد جيل، حيث باتت قيمة الطالب فى «درجاته» لا فى عقله، ومستقبل الأسرة مرهوناً بملخص أو درس خصوصى أو توقعات معلم شهير.
لكن حين ظهر النظام الجديد، البكالوريا الجديدة، بدا الأمر أشبه بزلزال تربوى يهدد أركان «إمبراطورية السناتر». فجأة، أصبح الخطر يهدد جيوباً امتلأت لعقود، ونفوذاً ترسخ حتى صار فوق المدرسة نفسها. ومن هنا بدأت الحرب.
لماذا يخشون البكالوريا الجديدة؟
١- لأن الامتحان لم يعد «فرصة واحدة»
النظام القديم كان يقوم على ورقة امتحان واحدة، تسقط أو ترفع، تحدد العمر كله. وهذا جعل الطالب يعيش فى حالة رعب دائم، والأسر تدفع الغالى والنفيس خوفاً من الرسوب.
أما فى البكالوريا الجديدة، فالتقييم أصبح ممتداً ومتدرجاً، بفرص متعددة تعطى الطالب أكثر من مساحة للنجاح والتقدم. وبذلك ينهار «سلاح الخوف» الذى كان أساس تجارة «السناتر».
٢- لأن المواد الدراسية أقل
أكبر ضربة وجهتها البكالوريا الجديدة لأصحاب «السناتر» أنها قلّلت عدد المواد الدراسية. وهذا يعنى أن سوق الدروس الخصوصية سينكمش تلقائياً إلى أقل من النصف، وأن أرباحاً طائلة ستتبخر فى الهواء. فكيف لهم أن يقبلوا بذلك؟
٣- لأن الفهم حلّ محل الحفظ
كانت تجارة «السناتر» قائمة على الملخصات والمذكرات «السحرية»، والاعتماد على التوقعات وحفظ نماذج الإجابة. لكن البكالوريا الجديدة جاءت بأسئلة تقيس الفهم، التفكير النقدى، والقدرة على التحليل. ومع هذا التغيير، تفقد تجارة «الحفظ الأعمى» قيمتها بالكامل.
٤- لأن المدرسة عادت إلى قلب المشهد
فى النظام القديم، كان الطالب يذهب إلى المدرسة فقط من أجل الحضور الشكلى، بينما حياته التعليمية الحقيقية تدور داخل «السنتر». لكن اليوم، مع النظام الجديد، المدرسة استعادت مكانتها، والمعلم داخل الفصل أصبح المرجع الأول، لا معلم «السنتر» الذى كان يتعامل مع الطالب كـ«زبون» لا «إنسان».
٥- لأن الأسرة تتحرر من الابتزاز المالي
مليارات الجنيهات كانت تذهب كل عام إلى جيوب أصحاب «السناتر»، على حساب لقمة العيش، وراحة الأسر، وكرامتها أحياناً. اليوم، مع البكالوريا الجديدة، بدأت الأسر تلتقط أنفاسها. العبء المالى أخف، والقلق أقل، والطالب لم يعد بحاجة إلى «تذكرة نجاح» من «السنتر».
أسلحة الحرب ضد البكالوريا الجديدة
حين شعر أصحاب المصلحة بالخطر، لم يواجهوا النظام بالحجج العلمية، بل أطلقوا قذائف من الشائعات:
«النظام معقد ومستحيل».
«الطلاب لن ينجحوا».
«الامتحانات غير مفهومة».
«المستقبل فى خطر».
لكن الحقيقة أن هذه الادعاءات ليست سوى فزاعات لإبقاء الطالب أسيراً للخوف، وإبقاء الأسرة رهينة لجيوبهم.
من الرابح ومن الخاسر؟
الخاسرون:
أصحاب «السناتر» الذين خسروا نصف تجارتهم على الأقل.
المعلمون الذين اعتادوا الشهرة والسطوة بعيداً عن المدرسة.
تجار الملخصات والمذكرات.
الرابحون:
الطالب الذى صار يُقاس بقدراته لا بدرجة عابرة.
الأسرة التى تحررت من نزيف الجيوب المستمر.
المدرسة والمعلم الشريف الذى يعمل بضمير داخلها.
الوطن الذى يربح جيلاً جديداً يفكر ويبدع بدلاً من أن يحفظ ويكرر.
الحرب على البكالوريا الجديدة ليست صراعاً على ورق امتحان، بل على مستقبل وطن بأكمله. فمن يريد أن يبقى النظام القديم إنما يريد أن يبقى الطالب زبوناً، والأسرة ممولاً، والتعليم سلعة. أما البكالوريا الجديدة فهى محاولة جادة لإعادة التعليم إلى جوهره: رسالة لبناء العقول والإنسان.
ولذلك، كلما ارتفع صراخ أصحاب «السناتر»، تيقنّا أكثر أن التغيير أصابهم فى مقتل… وأننا نسير بالفعل على الطريق الصحيح.