آيةٌ كريمة مشرقة، تحمل بين طياتها فقهًا راسخًا فى باب الصحبة النبوية، من خلال دلالةٍ دقيقة لِمَعْنَى الظرفية.
ومن المعلوم أن القرآن الكريم يُفَسَّر بلسان العرب، وهو لسانٌ ثريٌّ عميق، قائم على قواعد وضوابط وأصول راسخة، تتناول الكلمة صوتًا وصرفًا ونحوًا ودلالة. والعلماء – رحمهم الله – ما تركوا حرفًا فى كتاب الله إلا وقفوا عنده؛ يفتشون عن أسراره، ويستكشفون مقاصده.
وقد تعلمنا أن الحروف عند العرب نوعان: حروف المبانى، وهى الحروف الهجائية الثمانية والعشرون التى تُبنى منها الكلمات، وحروف المعانى التى تتنوع: فمنها المفرد (كالواو، والفاء، والباء)، ومنها ما يتألف من حرفين (من، عن، في)، أو ثلاثة (إلى، على)، أو أربعة (لعل)، أو خمسة (لكنَّا). وكل حرف منها يفتح بابًا من أبواب المعانى، وقد عُدَّت معانيها حتى بلغت ستةً وخمسين معنى، منها: الابتداء، والغاية، والانتهاء، والتبعيض، والظرفية، والتمنى، والتأكيد، والقسم... إلى غير ذلك.
وعند التأمل فى قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) نجد أن مفتاح الفهم هنا فى حرف (في)، وهو من حروف المعانى، ومعناه الظرفية. والظرفية تعنى أن شيئًا يَحوى شيئًا آخر ويُحْكِم الإحاطة به؛ فحين نقول: الماء فى الكوب، دلّ ذلك على أن الكوب قد أحاط بالماء من جميع جهاته، وأن الماء لا يتفلت من الكوب من أيّ جهة. وحين نقول: المصلون فى المسجد، دلّ ذلك على أن المسجد يضمهم بين جدرانه فلا يتفلت منهم أحد.
وعليه؛ فإن الظرفية الواردة فى هذه الآية الكريمة تُفيد أن تسمع علينا أنوار النبوة من خلال سنته المشرفة، أى أن المقصود أن يكون نور النبوة محيطٌ بنا إحاطة كاملة، فلا مهرب لنا من أنواره إلا بالانفلات عنها، ولا نجاة لنا إلا بالتمسك بها.
وإن فاتنا شرف مصاحبته (صلى الله عليه وسلم) جسدًا وقالبًا، فلا يفوتنا أن نصاحبه قلبًا وروحًا؛ إذ يبقى (صلى الله عليه وسلم) فينا بسنته، ومنهجه، وهديه، وسيرته العطرة.
فالواجب أن نُترجم سنته (صلى الله عليه وسلم) فى واقعنا: التزامًا بأوامره، وانتهاءً عن نواهيه، واقتداءً بسلوكه وأدبه، حتى تحيط بنا من كل جانب من جوانب حياتنا، فتصوغ جوارحنا على هيئة الخير، وتغمر حياتنا بمعالم الجمال.
اللهم صلِّ على سيدنا محمد صلاة تجمع بها روح المُصلَّى عليه بالمُصَلِّى عليه.
اللهم آمين بجاه الأمين.
رئيس الإدارة المركزية لشئون القرآن بالاوقاف