السكان: المقابر مغطيانا «رضينا بالهم وأخرتنا الذم» تحقيق: إسلام أبوخطوة تصوير: محمد طلعت على بعد أمتار من السيدة عائشة بالقاهرة، وبالتحديد فى مساكن مقابر سوق التونسى، تختلط الأرواح الراحلة بأنفاس الأحياء، أناس على حافة الانهيار، يخوضون معركة من نوع خاص كل صباح، وكأنهم يحاربون من أجل البقاء، يعيشون بين القبور ويصرخون بصوت مخنوق: «رضينا بالهم والهم مارضيش بينا». وسط هذه المنازل الصامتة طفت إلى السطح أزمة جديدة أطلق عليها السكان «المعركة بعد الموت»، والمقصود بها أزمة الإيجار القديم فى المقابر، بعد هروبهم من الإيجارات الباهظة فى المناطق الأخرى. أناس أجبرتهم ظروف الإيجار القديم وطغيان غلاء المعيشة على السكن بين الموتى، هربًا من مصير أسوأ، حكايات الألم مع صرعات الكرامة المهدّمة، «رضينا بالهم والهم مارضيش بينا»، كما يقول أحدهم، و«بعدما اتزالت بيوتنا على الدائرى، جينا فى مساكن المقابر.. وفى الآخر هيطردونا» كما يروى حسن السيد، بصوتٍ هامس لكنّه ينضح بالمرارة. مرّت السنوات، وتراكمت الإيجارات، وأصبحت هذه الأسر مهددة بالطرد من قبل ملاك الأرض أو من يزعمون ملكيتها، بل وصل الأمر إلى استغلال البلطجية والمستثمرين ضعفهم القانونى وهشاشتهم الاجتماعية للضغط عليهم ومساومتهم. حياة خانقة زكريا عليوة، يروى تفاصيل تلك الحياة الخانقة: «ولدنا وكبرنا بينهم.. الغرفة الواحدة اللى نسكنها أنا وأمى وأولادى أصبحت منزلنا الوحيد»، الغرفة الواحدة التى هى فى الحقيقة جزء من حوش مدفن، معتم لكنه الأمان الوحيد الفعلى للنفس المتعبة، الحياة هنا هى طقوس البقاء، على الرغم من فَظاعة المكان. لكن هناك من يتحدث عن مزيج مشوّه بين الخيالات والواقع الموحش، يقول أحدهم رفض ذكر اسمه خوفًا من بطش السماسرة ومعاونيهم من البلطجية: «نعيش وسط صراخ وبكاء، وحتى الكلاب والمخدرات تسكن هنا». هذه الكلمات تختصر الشهور من الذعر والقلق داخل هذه البقعة المقفرة، حيث لا أملاك مدنية ولا إرادة سياسية تُنقذ الأحياء من الهلع الدائم. يقول زكريا السيد، إنه كان يقطن فى شقة تمليك بمنطقة غمرة، وتم هدم البرج بعد قرار الإزالة من قبل محافظة القاهرة، وعجز عن شراء شقة تمليك فى أى منطقة بسبب عجزه المالى، ما دفعه للذهاب إلى المقابر وقال: «كان كل همى ألاقى 4 حيطان يحافظوا عليا أنا وعيالى». يستكمل حديثه ويقول إن أبناءه فى مراحل تعليمية مختلفة بمدارس خاصة وهنا المفارقة القوية وتأنيب الضمير له كأب عاجز عن توفير مكان ملائم لأبنائه الذين يتعلمون فى مدارس خاصة، فكيف وهم من سكان المقابر حاليًا. وبسؤاله عن سبب عدم تحويل أبنائه لمدارس حكومية لتوفير المال الكافٍ للبحث عن السكن رد قائلًا: «ما يبقاش الخراب من الكل.. حتى لو وفرت مش هيجيب ليا شقة تمليك والإيجار العالى وسط البلد.. لا هعرف أواصل الحياة وكمان هكون خسرت مستقبل ولادى». كأننا ضيوف تجلس أم محمود، امرأة خمسينية ترتدى عباءة سوداء مهترئة وتدخن سيجارة بتوتر واضح، تقول بصوت منخفض: «من يوم ما اتكلموا عن قانون الإيجار القديم وإحنا مش نايمين، أنا ساكنة هنا فى أوضة مقبرة من سنة 1992، ومعايا عقد ورقى، بس مين يضمن لنا؟ القانون هيمشينا كأننا ضيوف». على بعد أمتار منها، يجلس الحاج سعيد على كرسى بلاستيكى مكسور أمام حجرة ضيقة، بابها من الصاج ومفتاحها صدئ. سعيد، رجل ستينى، فقد زوجته واثنين من أولاده فى حادث قديم، ولم يبقَ له إلا هذه الغرفة، التى استأجرها من أحد أحفاد مالك المقبرة الأصلى مقابل جنيهات قليلة، يقول: «لو خرجونى من هنا، أروح فين؟ أنا معاشى على قده، وولا عندى شقة ولا قريب يحتوينى، واللى يتكلم يقول لك: القانون مش فى صفك». المقابر مغطيانا أما فاطمة، وهى أرملة تعيل ثلاثة أبناء، فتقول بحسرة إن الغرفة التى تسكنها «مش بس مأوى، دى اللى مغطيانا من الزمان»، موضحة أنها لا تعيش فقط داخل المقبرة، بل تعمل فى تنظيفها ورش الماء حول القبور لكسب بعض الجنيهات، وتضيف: «منين هدفع إيجار جديد وأنا مش لاقية أكل؟! حتى المدارس مش عارفة أكمّل مصاريفها لأولادى». يحكى أحمد، شاب فى العشرينات نشأ فى هذه البيئة، أنه طوال حياته لم يعرف بيتًا سوى هذا المكان، حيث عاش مع أسرته داخل غرفة فى مقبرة عتيقة محاطة بشواهد القبور. يقول: «الناس فاكرة إننا غرباء، لكن دى بلدنا، إحنا مش بنختار نعيش هنا، دى الظروف اللى جابتنا، والآن بيهددونا بالقانون الجديد كأننا متسللين». وفى ظل التطورات التشريعية الأخيرة، بدأ كثير من أصحاب المقابر، أو ورثتهم، بالمطالبة بإخلاء السكان أو رفع الإيجار بشكل جنونى، لا أحد هنا يرفض دفع المال، لكن الجميع يعلم أن دخلهم الهزيل لا يسمح لهم بتحمّل أسعار إيجارات اليوم، فضلًا عن استحالة إيجاد بديل سكنى بنفس التكلفة أو حتى القبول الاجتماعى. حكاية بائع الأحذية ياسين النعمانى، رجل تجاوز الخمسين، كان يعمل بائعًا للأحذية فى الأسواق المتنقلة، بعد إصابته بوعكة صحية فقد مصدر رزقه، ثم فقد شقته التى لم يستطع دفع إيجارها، لجأ إلى إحدى غرف المقابر التى كانت بحوزة صديق له منذ سنوات بعيدة، يعيش الآن فى حجرة صغيرة فوق قبر، مغلقة بباب خشبى متهالك، لا يستطيع دفع إيجار جديد ولا الانتقال إلى منطقة أخرى، يقول بنبرة ثابتة: «لم أعد أطالب بالحياة الكريمة، فقط أرجو ألا يُؤخذ منى هذا المكان الصغير». أما نسرين عبدالرحمن، أرملة فى الثلاثين، تعيل طفلين بعد وفاة زوجها فى حادث سير قبل سبع سنوات. كانت تسكن فى غرفة متواضعة بإحدى العشوائيات، لكن بعد تهديدات بالطرد وتراكم الإيجار، اضطرت للانتقال إلى المقابر، حيث وجدت ملاذًا مؤقتًا تحول إلى إقامة دائمة، تعمل أحيانًا فى تنظيف المقابر أو إعداد الشاى للعمال، بالكاد تجمع ما يسد الرمق، تقول بصوت خافت: «إذا خرجونا من هنا، إلى أين نذهب؟ هذا المكان رغم كل شيء، يحفظ لى كرامتى». أحمد حافظ، موظف بالمعاش، 60 عامًا، يعيش مع ابنه حسام، طالب بكلية الهندسة، فى غرفة داخل مقبرة قديمة ورثها عن جده، كان يأمل أن يتخرج حسام ويغير مجرى حياتهما، لكن القلق من التعديلات التشريعية الأخيرة لا يفارقهما، يخشى أحمد أن يستيقظ ذات يوم ليجد نفسه مطالبًا بالإخلاء، دون أى تعويض أو بديل. يقول: «ابنى يذاكر كل ليلة بجانب القبر، يخطط لمستقبل قد لا يجد له موطئ قدم إن تم طردنا». لا يجوز تأجير المقابر مفاجآت صادمة كشفتها نهى الجندى، الخبيرة القانونية، بشأن تسكين المواطنين فى المقابر سواء بالإيجار الجديد أو القديم، مؤكدة أنّ لايجوز قانونًا تأجير المقابر للأحياء سواء للسكن أو لغيرها لانها مخصصة للدفن فقط وتأجيرها مخالفة للقانون. قالت نهى الجندى، إنّ بالنسبة بالتشريعات توجد قوانين ولوائح تنظم استخدام المقابر وتمنع استخدامها لغير الغرض المخصص له، والأعراف والتقاليد تكمن أن الأماكن مقدسة لراحة الموتى فكيف أحضر شخصا يقحم حرمة الموتى، ويمكن أن المستأجر حسن النية لكن القانون لا يحمى المغفلين، مشيرة إلى أنّ عدم جواز السكنة فى المقابر بأى عقود فهى باطلة. وتابعت: هناك استثناءات لعائلة معينة بشروط وضوابط مشددة، ولكن محكمة النقض تصدت لمثل هذه الأزمة فى الطعن المقيد رقم 2661 لسنة 81 ق حيث قالت «لا يجوز للمحكمة أن تفصل فى صحة المستند أو تزويره وتفصل فى الموضوع معًا»، وبعبارة أخرى، لا يجوز للمحكمة أن تقضى بصحة المحرر أو برده وتزويره، وأن تفصل فى موضوع الدعوى فى نفس الوقت.