أوراق مسافرة
الفساد يبدأ من داخل بيوتنا، كل فاسد أى كانت صفته وموقعه وتصنيفه الفئوى ولد وترعرع داخل أسرة ما، أسرة فشلت فى زرع الضمير الواعى اليقظ بداخله، فشلت فى تربيته على الحلال وكراهية الحرام مهما كانت المغريات وضغوط الحياة، فشلت فى تعريفه حدود الله وكيف لا يتجاوزها، فشلت فى تعليمه كيف تكون الرحمة بمن حوله من أبناء المجتمع، فلا يذيقهم كؤوس غشه، فساده، استغلاله، سطوة نفوذه، لا يمارس عليهم شهوة الكسب الحرام، ولا يتسبب فى المزيد من إمراضهم ومعاناتهم وقهرهم.
لا يوجد فاسد هبط من السماء أو ظهر كنبت شيطانى فى صحراء، بل للأسف أغلب هؤلاء من أسر قد تكون كبيرة وعريقة وقد توارثت الفساد حتى اعتبرته «سنة» خاصة بهم، وبعضهم من أسر فقيرة ذاق الفقر والجوع، فتحول لديه القهر إلى كره ونقمة ورغبة فى الانتقام من مجتمع لا يخلو من المعاناة والفقر، لذا لو أردنا معالجة ظهور المزيد من الفساد، علينا أن نبدأ من داخل الأسرة، إنه دورها الأول، يلى ذلك دور المؤسسات التربوية والاجتماعية والدينية من مدارس، جامعات، أندية، مساجد، كنائس، ويقع عبء كبير على رجال الدين مسلم ومسيحى، أن تكون خطبهم وأحاديثهم عن هذا الفساد المجتمعى المستشرى وكيف نتقيه فى المهد بتربية أولادنا تربية قويمة، كيف نقاومه يافعًا وشيطانًا مريدًا كيف نحمى شبابنا من الوقوع فى براثنه.
جميعًا مشاركون بشكل أو بآخر فى وجود ما يسمى بـ«الدولة العميقة»، «دولة داخل دولة»، «ورثة القطط السمان»، وغيرها، مشاركون ولو بالصمت والتهاون، نردد تلك المصطلحات وغيرها فى جلساتنا ونحن نلوك أحلامنا الضائعة مع رشفات الشاى المر الذى خففنا سكره بسبب الأمراض التى ضربت صحتنا بفعل القهر أو الفقر، أو تقشفًا فلم يعد يفرق لدينا مذاق الشاى أصلًا إذا كان مرًا أو محلى بالسكر، لأننا فقدنا تقريبًا مذاق الحياة نفسها، نرددها ولا نعلم أننا بقبولنا وصمتنا ندعم كل هذا الفساد الذى بدأ بدوائر شخصية ثم استفحل ليصل إلى قلب مؤسسات الدولة الهامة، فساد ينهك الموازنة، يهدر أموال الدولة على خارطة محكمة من وسائل النهب والسلب، فساد يشتت جهود التنمية الحقيقية، يهدر مكتسبات المواطنين من تلك التنمية، بين وقت وآخر تسقط بعض رؤوس الفساد اليانعة، لكن ذيولها بل قل جذورها لم تقطع ولم تجتث، فتنبت من جديد وتتغلغل عبر الأرض الطيبة لتفسدها وتحول تربتها الخصبة إلى «خرابات» بور.
لذا لا يجب القبول بأن الفساد بات أمرًا واقعًا وجزءًا لا يتجزأ من واقع مجتمعنا، التسليم بذلك يعنى الاعتراف، الاعتراف يعنى القبول بالتعاطى والتعامل، وهو أمر للأسف صرنا نراه عيانًا جهارًا، فكم منا بادر بتقديم الرشوة أو الإكرامية كما نسميها لموظف أو مسئول حتى قبل أن يطلبها ذلك الفاسد، كم منا بحث مسبقًا عن كارت توصية أو شخص مقرب له من العائلة أو المعارف ليتوسط له فى قضاء مصلحته والحصول على حقه العادى، حتى قبل أن يبادر المسئول بتعقيد مطلبه وإغلاق باب التيسير فى وجهه، كم منا خالف القانون والقواعد واللوائح والإجراءات لثقته أنه سيدفع ويمر ولن تتم محاسبته أو معاقبته قانونًا.
ما أريد قوله هنا إننا بشكل مباشر أو غير مباشر ندعم الفساد والمفسدين، نغيب ضمائرنا لمجرد تحقيق مآربنا واحتياجاتنا، ونجد لأنفسنا المبررات بأن هذا هو الحال الذى صار عليه البلد، لذا علينا ألا نعفى أنفسنا ونلعب جميعًا دور الضحية لهذا الفساد والغياب الجمعى للضمائر، بل علينا أن نواجه أنفسنا صراحة بأننا كمجتمع السبب فى ترك الفساد يتوحش على هذا النحو، حتى وصلنا إلى درجة أننا نندهش وتذهل عقولنا إذا ما وجدنا بقعة ضوء فى ركام الظلام، أى وجدنا شخصًا أمينًا ذا ضمير يقظ وعلى خلق قويم وسط شرذمة الفاسدين، لأننا قبلنا مع الأسف تحول القاعدة إلى استثناء والعكس صحيح.
لذا إذا أردنا البدء الحاسم فى المعركة ضد الفساد والضمائر الغائبة، على كل منا أن يبدأ بنفسه، برفض التغاضى والتنازل عن حقه، بالإبلاغ الفورى للجهات الأمنية والمعنية عن أى غش أو فساد، بعدم التجاوب مع الفاسدين بالصمت أو التواطؤ والتمسك بحقوقنا تحت أى ظرف، اللجوء إلى الفضح المجتمعى بكل الطرق، التكاتف المجتمعى والمساندة لأى شخص يفضح بؤرة من الفساد وتكريس الحماية المجتمعية والقانونية له، تشديد الرقابة على التربح من النفوذ والمحسوبية واختلاس الموارد الحكومية، ربط الأعمال والخدمات بالتكنولوجيا لضبط منظومة الأداء وإغلاق ثغرات التربح استغلال النفوذ، إيجاد آليات أكثر قوة فى التتبع والمطاردة والضبط والعقاب لعمليات غسيل الأموال والتهرب الصريلى، تفعيل آليات إقرارات الذمة المالية للموظفين العموميين بقوة لمنع وكشف الطرق المتطورة التى يستخدمها أصحاب النفوذ لاستغلال الكيانات المؤسسية بجانب تأسيسهم لشركات وهمية ولكيانات قانونية شكلية لاختلاس الأموال الحكومية وتهريب ثرواتهم المنهوبة للخارج، مكافحة ما يطلق عليه الاقتصاد السرى بما يمثله من الأنشطة الاقتصادية الخفية «أنشطة بير السلم» والضرب بيد من حديد على من يمارسونها، بأيدينا نحيى الضمائر، نكافح الفساد، نمنع المزيد من براعمه فى النماء داخل بيوتنا بحسن تربية أولادنا، اللهم بلغت.. اللهم فاشهد.
fekria63@yahoo