خارج السطر
تبدو «الست» رمزا مُبهرا لفتاة ريفية بسيطة موهوبة، شقت طريقها بكد وعبقرية ومثابرة لا لتحقق نجاحا مُدويا فى عالم الفن والطرب فقط، وإنما لتمثل نموذجا استثنائيا فريدا لتفوق وصعود تاء التأنيث فى مُجتمع ذكورى شرقى. فسطوع أم كلثوم لا يمثل فوزا للفن وحده، وإنما ارتقاء لامرأة نحو قمة السلطة الإنسانية الموحدة للشعوب والأمم العربية بما يتفوق على الزعامات السياسية نفسها.
لذا لم أستغرب سؤال السيد رئيس الجمهورية للكاتب الزميل أحمد المسلمانى رئيس الهيئة الوطنية للإعلام قبل أيام إن كان من الممكن أن تُنجب مصر أم كلثوم أخرى، وإن كُنت قد استغربت من الإجراء التالى المتمثل فى تعيين كشافين فى المُدن والقُرى ومختلف الأنحاء لاكتشاف المواهب فى الفنون والآداب والفكر ومساندتها وتشجيعها ودعمها.
وسبب دهشتى مرجعه هو التعامل الجاف والبارد والمُزدرى فى بعض الأحيان للمؤسسات الرسمية مع المواهب المعروفة والقائمة والمتفق عليها فى مختلف المجالات. فلا احتفاء ولا اهتمام ولا عناية ولا فضاءات واسعة لممارسة الابداع بحرية وتشجيع ودون توجيه.
ليست المشكلة فى استكشاف صوت ساحر، أو ريشة مبهرة، أو حكاء مشوّق، فلدينا آلاف المبدعين المعروفين الأحياء الذين لم تُمد لهم الحكومة وصلات الرعاية وتركتهم فى العراء يطاحنون الريح، فثبت منهم مَن ثبت، وتراجع مَن تراجع، وأحُبط مَن أُحبط. ولولا سقوط الحواجز وزوال الحدود وتطور التكنولوجيا وقدرة البعض على الوصول إلى الأمم الأخرى ما ذاقوا أبدا حلاوة التقدير لمواهبهم.
لقد تابعت عن اهتمام نهايات مبدعين لامعين فى بلادنا يتفوقون فى تصورى على تشارلز ديكنز، وتولستوى، وأوسكار وايلد. وأتذكر عبارة شهيرة للمخرج العالمى لويس بونويل فى مذكراته يقول فيها «ما كان لشتاينبك أن يكون شيئا لولا المدافع الأمريكية، وأضع فى الخانة نفسها دوس باسوس، وهيمنغواى، فمن كان سيقرأ أعمالهم لو أنهم ولدوا فى بارغواى أو تركيا؟ إنها سلطة البلد هى التى تقرر مسألة الكُتاب العظام».
وقبل أيام كان لدينا مبدع عظيم جدا اسمه صنع الله إبراهيم لو وجد فى بلد آخر لحُمل على الأكتاف، وانحنت له القامات تقديرا، وتنافس المسئولون على تكريمه، لكنه تفتت مريضا منقولا من مشفى حكومى إلى آخر خاص على حساب أسرته، ولولا استغاثات المثقفين ما سأل عنه وزير الثقافة هاتفيا، حتى رحيله. وقبله ومثله موهوبون كُثر عرفناهم واكشتفناهم دون كشافين يجوبون القرى ولم تمتد لهم ذراع الدولة رعاية ودعما وتكريما.
تبدو أحوال الفن والابداع فى بلادى مشوشة. افقار لا فقر، استحواذ واحتكار مُتعمد، مركزية تتصور ضرورة توجيه كل شىء، صوت واحد ورأى واحد وطرح وحيد. ما الفن إن لم يكن حُرية وفرصا مُتاحة؟ ما الابداع إن لم يكن انطلاقا بلا خوف أو قيود؟ ما التأثير الإنسانى إن لم يكن صداما مع القبح ومقاومة للشر والكراهية؟
إن استنساخ أم كلثوم ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين ويوسف إدريس وأحمد شوقى ومحمد عبدالوهاب ممكن ويسير وبسيط. هُم موجودون بيننا وحولنا وفى كل موقع.
فقط أعيدوا لنا المناخ العام الذى شبّ فيه هؤلاء: مُجتمع ما قبل يوليو 1952، حيث التعددية الفكرية والانفتاح على العالم، والحوار الحضارى، وحرية الاختلاف.
والله أعلم