رادار
حين تصاب الأوطان فى صميم روحها لا يكون الجرح من عدو خارجى بل من سوء فهم داخلى يحاصر الأمل ويطعن الثقة.. الإبداع فى جوهره ليس ترفا بل صرخة حب يطلقها شباب يؤمنون بأن أوطانهم تستحق أن تروى بصوتهم وموهبتهم.. وحين يعاقب المبدع لأنه أحب وطنه أكثر مما تحتمل بيروقراطية عاجزة، نصبح أمام مأساة تتجاوز الفرد إلى مجتمع بأكمله.. إن الحرية التى أعلنها الرئيس ليست جملة تزين الخطب، بل عقد أخلاقى ملزم، فإما أن نصونها وإما أن نهدم بأيدينا الجدار الأخير الذى يحمى الحلم .. حين دوى صوت الرئيس قائلاً بوضوح إن الحرية مكفولة للجميع كان المقصود أن تترجم هذه الكلمات إلى سلوك يومى داخل المؤسسات .. لا أن تظل شعاراً معلقاً فى الفراغ، فكيف نفسر إذن أن تعمل بعض الوزارات وكأنها جزر منعزلة تبتدع قواعدها الخاصة وتتصرف أحياناً بما يناقض روح ما يصر الرئيس على تثبيته من مبادئ.
القضية التى تعرض لها الشاب عبدالرحمن خالد صاحب الفيديو الترويجى للمتحف المصرى الكبير ليست مجرد واقعة عابرة.. إنها مرآة عاكسة لاختلال العلاقة بين المبدع والمؤسسة، بين الروح الحرة والبيروقراطية الجامدة، بين شغف الشباب الذى يريد أن يضيف وعقلية الإدارة التى لا تجيد سوى الشك والاتهام. كان من الممكن أن يمر الأمر ببساطة من خلال مكالمة هاتفية.. تطلب الوزارة من الشاب رفع الفيديو، أو دعوته للتعاون فى الحملة الرسمية.. كان ذلك كفيلاً بإنهاء الموضوع وتحويله من أزمة إلى قصة نجاح.. لكن ما حدث كان العكس. بلاغ اتهام، ثم تشهير غير مباشر وكأننا نصر على أن نزرع فى وجدان الشباب رسالة تقول، احذر فإبداعك قد يترجم ضدك.. الحقيقة أن الشاب عبدالرحمن خالد ليس هاويا طارئا ولا مغامرا يبحث عن شهرة رخيصة، إنه شاب وطنى لطالما أسهم فى الترويج لمشروعات مصرية بروح عاشقة يقدم موهبته طواعية دون انتظار مقابل، إيماناً منه بأن صورة مصر أكبر من أى حساب شخصى فهل هكذا نكافئه؟.. إن ملكية الفكرة ليست دائماً ورقة قانونية تحفظها الأدراج.. الملكية الأعمق هى تلك التى يولدها الانتماء حين يسخر شاب جهده ليعكس للعالم عظمة بلده.. أليس الوطن ملكية عامة لنا جميعا؟.. أليس المتحف المصرى الكبير مشروعاً قومياً يحق لكل مصرى أن يفتخر به ويروج له؟.. الأزمة كشفت جانبا أكثر خطورة.. أن بعض المسئولين ما زالوا أسرى ذهنية العقاب والتأديب، وكأنهم أوصياء على الإبداع لا شركاء فيه.. هذه الذهنية لا تؤذى عبدالرحمن وحده، بل تبعث برسالة سلبية إلى آلاف الشباب الذين يتابعون الموقف بقلوب واجفةـ إذا تجرأت وفعلت مثلما فعل، فقد تلقى نفس المصير.. هنا يكمن الكسر الحقيقى فى بنيان المجتمع.
ولولا الحملة الشعبية الواسعة التى انتفضت للدفاع عن الشاب ولولا صوت الرأى العام الذى عبر عن رفضه ربما كنا أمام مأساة أكبر، تحبط جيلا كاملا من الموهوبين وتزيد الفجوة بين الدولة وشبابها .. لكن الناس لم تصمت والرئيس كما كنا نثق لم يكن ليقبل بهذا العبث لأن ما جرى لا يشين شابا مخلصا، بل يشين مؤسسة عريقة يفترض أنها واجهة مصر السياحية والثقافية.. إننى هنا لا أدافع عن عبدالرحمن كشخص فقطـ بل عن حق جيل كامل فى أن يجد دولة تحتضنه لا تحاصره تحفزه لا ترهبه تسمع صوته لا تخنقه.. فالأوطان التى تضيع ثروة شبابها تخسر أثمن ما لديها.. التنمية ليست مصانع وجسوراً فقط، بل عقول مضيئة وقلوب مخلصة قادرة على الابتكار.. لقد أراد عبدالرحمن أن يقول للعالم إن مصر تبنى أعظم متحف فى القرن الواحد والعشرين.. فهل كانت جريمته أنه أحب وطنه بصدق.. هل صار الإخلاص تهمة؟
إن القضية أعمق من شخص واحد ومن فيديو واحد ـ القضية هى .. هل نحن قادرون على بناء علاقة جديدة بين الدولة والمبدع .ـ بين السلطة والفكرة، علاقة تقوم على الثقة لا الريبة على الشراكة لا التربص.. إذا بقينا أسرى هذه العقليات القديمة، فلن نتقدم مهما شيدنا من مبانٍ ضخمة لأن البناء الحقيقى هو بناء الإنسان.. نعم تداركت الوزارة موقفها وسحبت بلاغها، لكن يبقى السؤال: من أوعز لها منذ البداية بهذه الخطوة المشينة .. ومن سيضمن ألا تتكرر الكارثة مع شاب آخر؟.. إن الاعتراف بالخطأ بداية الطريق لكن الأهم هو تغيير الثقافة الإدارية نفسها.. حتى لا يتكرر هذا المشهد يجب أن نعيد النظر فى طريقة تعامل مؤسساتنا مع الطاقات الشابة.. فبدلا من أن نصدر لهم الإحباط، لنجعلهم شركاء فى صياغة الصورة ولنفتح أمامهم الأبواب لا المحاضر، ولنتذكر أن الحرية التى أعلنها الرئيس ليست شعارا، بل عقد اجتماعي يلزم الجميع.
إننى أكتب وفى قلبى غصة لكن أيضًا يقين.. فالغصة لأننا كدنا نخسر مبدعا شابا بسبب قصور فى الرؤية.. واليقين لأننى أعلم أن مصر لا تبنى إلا بشبابها، وأن الرئيس لن يسمح بأن تتكرر مثل هذه الكوارث.. ليكن ما جرى جرس إنذار لا مجرد حادثة عابرة .. فالإبداع إذا قمع مات، والوطن بلا إبداع جسد بلا روح.. ورغم كل ذلك لا بد وأن أقولها صراحة.. فمهما يكن من أمر.. تبقى الحقيقة الأبدية .. أن الرئيس قد وجد أمامه ميراثا مثقلا بالخطايا والتراكمات.. لم يكن شريكا فى صناعته ولا مسئولا عن ولادته.. ومع ذلك شاء القدر أن يحمل على عاتقه عبء تصحيحه فيخوض صراعاً مع تاريخ موصوم.. تاريخ لا يخصه وحاضر يحاصره.. مدفوعاً بأمل أن يولد من ركام الأمس مستقبل أعدل وأجمل على يديه.. اعانه على ما لم يختره لكنه اختير له.
وللحديث بقية.. إن شاء الله تعالى