كبسولة فلسفية
وفي الأدب الروماني تَبدو ملامح الواقعية واضحة، ولا سيّما عند الكاتب الكوميدي "بلوتس" – وهو كاتب مسرحي روماني – الذي لم يُخلِّف لنا سوى عدد قليل من المسرحيات، لعلّ أهمّها مسرحية "جرة الذهب"، حيث انتقد فيها صفةً مذمومةً عند بعض الناس، وهي صفة البخل، وذلك بأسلوبٍ واقعيٍّ جذّاب. ولعلّ هذا ما جعل "موليير" – وهو مؤلف مسرحي كوميدي فرنسي – يتأثر بهذه المسرحية حين كتب مسرحيته الشهيرة "البخيل".
ويمكننا أن نمدّ نظرنا إلى أدب العصور الوسطى، فنلاحظ أنه يزخر ببذورٍ واقعيةٍ كثيرة، من حيث الأهمّية الكبرى لاختلاف الأساليب والأنواع الأدبية، وظهور الأسلوب الوسيط الذي يختلف عن الأسلوب التراجيديّ اليونانيّ الفخم.
والحقيقة أن هذه البذور الواقعية لم تظهر في فن المسرح، بل كانت في فن القصص إلى حدّ ما. فالمسرح في العصور الوسطى لم يكن يستمد موضوعاته من واقع الحياة، بل كان يستمدّها من القصص الديني الوارد في الأناجيل، وحتى الكوميديا في تلك الفترة كانت تهدف إلى الإضحاك فحسب، لا إلى نقد الأوضاع الاجتماعية.
أما فنّ القصص في ذلك العصر، فإنه يشتمل – إلى حدٍّ ما – على عناصر واقعية، على الرغم مما يبدو لنا لأول وهلة من بعده الشديد عن الواقع وتصويره. فعندما نفك رموز "الكوميديا الإلهية" للشاعر الإيطالي دانتي، نرى لوحةً رائعة تُجسّد تصوّر العصور الوسطى للحياة، والثواب والعقاب، وسائر المعتقدات.
أضف إلى ذلك، عزيزي القارئ، أن هناك ما يُسمّى بالنقد اللاذع لبعض مظاهر المجتمع، مثل مهاجمة "كنيسة روما"، وفضح نفاق الرهبان وجشعهم، بل ووضع أحد الباباوات في الجحيم، في مقابل اختيار الفردوس مقرًّا لأحد تلامذة ابن رشد – ذلك الفيلسوف الإسلامي – الذي دفع حياته ثمناً لتعسّف الكنيسة.
وإذا كانت التراجيديا الكلاسيكية في القرن السابع عشر قد ابتعدت عن تصوير الحياة تصويرًا واقعيًّا، فلأنها التزمت محاكاة النماذج الإغريقية والرومانية القديمة، وعزفت عن تمثيل الواقع المعاصر، وتمادَت في التقيد الصارم بالقوانين التي صاغها أرسطو، ولا سيّما قاعدة الوحدات الثلاث: وحدة الموضوع، والزمان، والمكان؛ الأمر الذي قطع صلتها بالواقع الحيّ، على خلاف ما بدأ يظهر في فنون سردية أخرى أكثر مرونة.
وما أودّ أن أصل إليه، صديقي القارئ، أنّه إذا كانت التراجيديا الكلاسيكية قد انعزلت عن واقع الناس، فإن الكوميديا جاءت على النقيض من ذلك، أكثر التصاقًا بالحياة اليومية وأخلاق المجتمع آنذاك. ويكفي أن نستشهد بموليير، ذلك المسرحي العبقري، الذي ترك لنا عددًا من المسرحيات انتقد فيها أمراض المجتمع الفرنسي، كما في «البخيل» حين هاجم الطبقة البرجوازية الناشئة وولعها بجمع المال على حساب الأبناء والعلاقات الإنسانية، أو في «طرطوف» حيث عرّى نفاق بعض رجال الدين الذين يرتكبون أقبح المعاصي ويتظاهرون بالتقوى. وليس ذلك فحسب، بل إن موليير تمرد أيضًا على تقاليد المسرح الكلاسيكي الذي كان يعتمد الشعر الفخم والأسلوب المزخرف، فكتب بعض مسرحياته بالنثر، في خروجٍ واعٍ على النموذج المسرحي القديم.
ثم جاء "فولتير" – وهو فيلسوف فرنسي – فدفع عجلة الواقعية إلى الأمام دفعة قوية أخرى، ولا سيّما في قصته "كانديد" أو "التفاؤل"، التي يسخر فيها سخرية لاذعة من مبدأ التفاؤل المطلق الذي كان سائدًا آنذاك في بعض الأوساط الثقافية، وخاصة في ألمانيا.
وحتى شكسبير، الذي عاش في عصر النهضة في القرن السادس عشر ويُعدّ عادةً مهدًا للرومانتيكيين ومنبعًا ثريًا لهم، نجد في مسرحياته أيضًا كثيرًا من العناصر الواقعية. ففي "هاملت" مثلًا، يقترب شكسبير من الواقع تمامًا، حين يُقحم شخصية المهرّج وسط واحد من أعمق المشاهد التراجيدية، وهو المشهد الذي يظهر فيه الأمير هاملت في المقبرة، حائرًا متأملًا أسرار الحياة المؤلمة الغامضة. وذلك لأن الحياة الواقعية ليست ملهاة خالصة ولا مأساة محضة، بل تقوم على المؤلم والمضحك معًا.
وأخيرًا، نجد أن الواقعية لم تنشأ عفوًا أو بوحيٍ من خيالٍ مجرّد، بل كانت وليدةَ إدراك الإنسان لمعاناته، ومحاولته تفسير ما يدور حوله من قضايا يجهلها. وهذا يعني أن مصطلح الواقعية – الذي بلغ لاحقًا صورته النهائية مرتبطًا بالأدب والواقع – كان ثمرةً للصلة الوثيقة بين الإنسان والحياة والفن. وإذا ما عدنا إلى تاريخ الفكر البشري، وجدنا أن الفلسفة سبقت الأدب في استخدام مصطلح الواقعية وتداوله بزمن طويل.
[email protected]