إطلالة
مازال الحديث مستمرا حول التأمين الصحي الذى يواجه بسببه المرضى شتى ألوان العذاب، على يد القائمين على هذه المنظومة.
إن النظام الحالي للتأمين الصحى رغم الجهود المبذولة بشأنه، يعاني من قصور جوهري نابع من فلسفته القائمة على رد الفعل وليس على الاستباقية والوقاية، وهو ما يتطلب تحولا جذريا في الفكر الذي يحكمه، من نموذج علاجي بحت إلى نموذج وقائي شامل يضع صحة المواطن على رأس أولوياته قبل وقوع المرض، وهو تحول لا يمثل رفاهية بل ضرورة حتمية لتحقيق الاستدامة المالية والاجتماعية للنظام وضمان توفير رعاية صحية لائقة للجميع. فالفلسفة الحالية التي تركز بشكل أساسي على تغطية تكاليف العلاج بعد حدوث المرض، تضع عبئا ماليا هائلا على كاهل الدولة والمواطنين على حد سواء. فالمرضى لا يلجأون إلى النظام الصحي إلا في حالات متأخرة، مما يزيد من تكلفة العلاج ويقلل من فرص الشفاء الكامل، في حين أن التركيز على الوقاية كان من شأنه أن يمنع أو يقلل من انتشار العديد من الأمراض المزمنة والمعدية التي تستنزف الميزانيات وتؤثر على الإنتاجية العامة. هذا النهج السلبي يغفل حقيقة أن الاستثمار في الصحة العامة، من خلال حملات التوعية، والفحوصات الدورية، وتوفير التطعيمات، يعد استثمارا يعود بالنفع الاقتصادي والاجتماعي على المدى الطويل، إذ أن المجتمع السليم هو مجتمع منتج قادر على تحقيق التنمية. ولتحقيق هذا التحول، يجب أن تتغير فلسفة التأمين الصحي لتشمل ثلاثة أبعاد رئيسية وهى الوقاية، وذلك عبر إدماج برامج الفحص المبكر للأمراض غير المعدية مثل السكر والضغط والسرطان ضمن الخدمات الأساسية للتأمين، وتوفير حوافز للمواطنين للمشاركة في هذه البرامج، بالإضافة إلى تنظيم حملات توعية مستمرة حول أنماط الحياة الصحية. وكذلك لا يجب أن يقتصر التأمين على فئات معينة من المجتمع، بل يجب أن يمتد ليشمل جميع المواطنين، بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي أو قدرتهم المالية، مع مراعاة العدالة في توزيع الموارد الصحية بين المناطق الحضرية والريفية، وتوفير خدمات متكاملة لا تقتصر على العلاج الطبي بل تشمل الصحة النفسية والاجتماعية. وهذا يتطلب إعادة هيكلة نظام التمويل ليصبح أكثر كفاءة وشفافية، مع تطبيق نظام تسعير عادل للخدمات الطبية يشجع على المنافسة ويضمن جودة الرعاية، ووضع آليات للحد من الهدر وسوء استخدام الموارد، بالإضافة إلى استكشاف مصادر تمويل جديدة ومبتكرة مثل الضرائب على المنتجات غير الصحية مثل التبغ والمشروبات السكرية، وتوجيه عائداتها مباشرة لدعم نظام التأمين الصحي. إن تبني هذه الفلسفة الجديدة لن يقتصر أثره على تحسين المؤشرات الصحية للمواطنين فحسب، بل سيعزز من قدرة الاقتصاد المصري على النمو والازدهار، فالمجتمع السليم هو أساس التنمية المستدامة، والتحول من علاج المرض إلى الاستثمار في الصحة هو خطوة حتمية نحو بناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.