رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري

قطوف

غَبارٌ وَردِي

بوابة الوفد الإلكترونية

من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع..
هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.
"سمية عبدالمنعم"

 

 

«كانت الريح رفيقة بِتنورتها، أذهبت عنها استرسالا مهيبا، ارتفعت مثل سماءٍ سابعة وتدلَّت كشجرة ميلاد، بدت ساقها تنجلِي، بزغ طرف حذائها يُنادم الطُرق. كأن الريح أدركت ما بِالنفوس فاستْشرت بطائفةٍ مِن الغُبار قسرًا ومحت سطوة النظر، اشتعل المدى واشرأبت أعناق السماء، أخذت الأجفان تُطبق والقلوب تسعل».
ثمة ضبابية تتبدَّد في الفضاء المُحيط بِالفتاة، العيون توقَفت عن التحليق، اكتظت أجنحتها بِالحياة، هبطت رموشها مصدات رياح، أخذ البعض يتقي بها ذرات غبارٍ كثيف، هناك نُتف أشعة شاغبها سحاب وتجمعت، صنعت زهرة شمسٍ كبيرة في  نشاز وقتٍ ازدحمت فراغاتهُ، لم تَعشّْ الأبصار إلا قليلًًا، دارت بتلاتها، ثم رقص غُصنها بِمجون. 
يبصر الجموع في منبع الخالق الكوني شاخصة في  نفس الاتجاه، لماذا لا يتورعون أن ينظروا لِنفاياتٍ نتنة تقبع في الرصيف مثلًًا؟ يافطات مليئة بِوعود زائفة تجرش عظم الحقيقة؟ملصقات خلعت ثوبها المُتحِد مع قِشر طلاءٍ باهت، ناكفت جدوى الحوائط، كأنما استندت عليها أوهام سياسية، مزخرفة بِمواد تُخدِّر الوقت، تصلح أن يتعاطاها مأفونون، كهنة في عُهر ادعاءاتهم الممجوجة، رُبما دعايات مُغنين مطاليق، وغيرها!.
راح يمتطي رائحة تلك الفتاة، مثل صدىً يتيه في عُمق النهار، يراها تخطو بثبات دون أن تلتفت، تجتاز المارة كأنها تتزحلق بينهم، تنزلق مُراوغة لِظلٍ تهرع مواجعه، كانت العيون مُصفْدة بِالوجوم. ضاق صدر القاع حتى بات ملمسه يلمز صراحة الغِناء، الأقدام تتوكأ كأنها تُعطي ثقًة لِمسوخ تختنق داخلها، تفثأ الأرض فتنبثق من الظلال، الناس ينسابون بلا هدف في سديم رائحة جائلة، خصر النهار يعوِي بِسرابيل صمتهِ، لا يحتويهِ خط جُغرافيا، لم يتهجأ اعتداله استواء. اقترب من نفسهِ قليلًًا وصنع رسنًا لِظلهِ قبل أن يقفز للأسفل كي لا ينساق لِدائرة مُغلقة، عروقه تهتف، ألفى قلبهُ مُحتارًا في خضم وقتٍ منقُوع لم تكتمل إدانته بمسيرة، تتمدد في  اِكتظاظ فراغهِ، تشرَّب ماؤه هواًء معزولًًا، وتمرغت سحابة يومه في فضاء مُفخخ.
وقَفَتْ الفتاة، رفعت يدها، كان كتفها يبرق، انسابت تنورتها في زحمة وجوهٍ مبثوثة، هفهفت بِلونٍ كأنهُ سيحترق بِصلصة بُهارٍ قادم قد يطبخهُ الطريق، هبطت شفاه تِرِتِرها الهادئ، وقبَّلت التُراب ذا الزبد والغيم، جرَّته معها كأنها تُمارن وجههُ. تملَّكهُ شعورٌ مخيف بِالوحدة، لم تثمل فكرتهُ، ربما تتقهقر في الغرق أو تقفز لِبر، كانت الأقوام تترى اتجاه الغرب، تقزَّم أُفقه بِالرتق، انتبذَّ مكانًا شرقيًا كي يصنع جسدهُ المُضاد للذوبان، قبل أن يُعلِّق شارة القطيع ويُزمِر خلف وقتهِ المُنهزم
وقف جواره أحدهم، كان غارقًا في سرادق صمتهِ القمئ، بدأ يغلق عينيه مثل مخمور تَنخز قلبه فوهة سلوى بما تنثرهُ لحظة مجهولة، لآوح وجههُ مسار الجموع فَرمتهُ بِفَلزة تنورة تلمع، تتفجَّر أنهار أوردتها، بدأت أسئلتهُ تنفلت من ثنايا ذاكرة مُؤقتة، تغوي شمعة عقلهِ، لم تُطل دمعته الحديث وتشابكت سهام يقظتهِ القلقة، أظهرت نواة أفكار مُشتتة بِعُزلتها، تنهَّد عميقًا ونظر إليهِ، أمسك بيدهِ اليمنى ووجَّههُ صوب الغرب، رفع سارينته ومضى تطفِر من قلبه عذوبة، ويصيح لِيلحق بالظنون.
تدلف سيارة بأزيزها نحوهِ، شعاعها كطمأنينة على عتبة دار مسنين، يتموَّج ضوؤها بِحذاقة مريرة، مثل طبقة هواء تستحل الجمر فيتبخر وَهجه، تصيخ بهِ تعاسة نارها، تصنع أشكالًًا هلامية على الجُدًر، تتفرع منها طيوفٌ عارية تشبه مفسري كتب عتيقة. يراها تمضي وتتسلق لُججًا هادرة، وتختفي بين الناس. 
كانت الطيوف المارة تتئِد ككرنفال صامت، لا يخرج من عزلة أمنياتهِ فيُطعم أمسية أزلية توازيّ عرش الماء، بدأ يجتاز شارعًا مُوحشًا بِالهدوء وعاريا بِحسرتهِ، كأنه صفحة مفتوحة فارغة من الحروف، أغلق أذنيه كي لا يرصد وجههُ نشاز الندم من شيءٍ لم يحدث إلا في  بالهِ، ولم يُنافح  غيبوبتهِ، راقب السيارات وهي تموء بِمحركاتها، تقف مصلوبة مثل جماجم على الأركان، تُغلِق أفواهها، ثم تهمِد أوداجها فيتبَّص بِها السكُون .
ذاك المتشرد كان يتَّحِد مع نصف برميل ناتئ،  ينثُر
لعناته باستمرار كأنه يؤبن نشوتهِ الهاربة، اقترب مِنهُ، خلعَ جسده وأبرز أوراقًا كان يُنظفها مِن بقايا طعام، طفق يُدمدم كحلمٍ يعتاش على يقظةٍ صدئة، لا تُنبِت قلبًا داخل قيامة صُبحهِ، كي يقف بِرغبة صخرة وحيدة، تُخبئ في  جوفها أمنيات، محض كائن يعاف ذكريات انتمائه لمخاليق وِجودية، أثقلها الجفاء كعائق، فابتعدت مُناجاتها. صدرهُ يتأفف، يسعل بِنداءاتٍ من شرفةٍ يخفيها في  ضِلوعهِ، مرَّ من أمامهِ وأنتْهرهُ بِموعظةٍ مُدببة، فتحسس جيبهُ المقدود بالخيبات، تأمل ثغرة إيمان تتجشم سطورها، تلتئم، سامر ضحكتهُ، فأسرج بِجوارحهِ أملًًا يتضاءل، سرى فيه نشاطٌ تتْقِد شمعتهِ، وتصنع قبسًا، فجأة! صرخ قلبه بِباقي يقين اشتجر في  حنجرته، صدح موالهُ كزعيق لهفة في جسدٍ مُحب، كان خاويًا فامتلأ بحِكمةِ تُعضِّد الذات الإلهية ولا تمنح الجسد موقفا مغايرًا.
رأى جسدهُ يَنبُض بِحرارة، كمن يقترع نخبًا ويتجرعُه وحدهُ بعد أن كان يدمن صمتهُ الباهظ، راحتهُ المُنهكة، اجتاز قِبابًا، أضرحة، تخوم براري، عب بوقتهِ حيث يضطرد ضجرٌ جاثم بِنِسوَة يفترشن حصباء بثوب تلاشي، كعزاء مُتحسِر يلف دثار مرارتهِ، غادرن عذوبة أجسادهن، أقمِن في خبب أعمار مُستترة بِلا التواء للكرامة، طفحت وجوههن مُهرقةَ بألمٍ دون أن يبلل معنى نظرتهن غثيان حوجة، غارت عيونهن في  فتيل الوقت، ولم يجفف ماء حيائهن كارثة. لكنهن امتلأن بنظرات حائرة ما قبل النفوق.
في ترانيم صمتهِ يعلو شأن نوتات الصياح، تتفرغ الأنخاب في كؤوس الكرى وتطرأ لحظة صحوٍ مبثوثة.. بدأ الغبار ينقشع إلا قليلًًا، انفلت جماح أُفق مُعلَّق ناصية بُقعةٍ عظيمة، انزاح قناعٌ يعصب وجه السما وتحلَّل، انغرز الضوء في  اليافطات والشجر؛ منح أرتال سحابتها الزرقاء مسامات مالئة بِالصحو، لم تتبخر تحت الشمس. على بال مسافة تَساقط الحر بالأقدام ،أحسَّ بروحهِ تزمع لِلهرب من سخام الطريق، تعرجاتهِ. 
(النص من مجموعة "قهوة صراف آلي"
الفائزة بجائزة الاتحاد العربي للثقافة)