رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري

د. نظير عياد مفتي الجمهورية قبل أيام من المؤتمر العاشر لدار الإفتاء:

نصوغ الفتوي بلغة عصرية

بوابة الوفد الإلكترونية

تطبيقات الذكاء الاصطناعى واقع لا يمكن تجاهله.. ونخوض معركة لبناء الوعى
نتصدى لحملات التشكيك والتزييف الفكرى .. و «التجديد» أمر أصيل فى ديننا
الفتوى الرشيدة تساعد فى إطفاء نيران النزاعات الدولية 

التحول الرقمى ضرورة حتمية لاستيعاب متغيرات العصر

نتعامل مع التراث بعقل ناقد .. والإسلام فتح باب الاجتهاد بضوابط
أصحاب الفكر المتشدد استغلوا الفتوى لتبرير العنف ونشر الكراهية
هناك تجاوزات باسم «التنوير».. و«الطعن» فى الثوابت مرفوض

 

 

ّ لا شك أن الذكاء الاصطناعى من الممكن أن يصبح أداة ذات تأثير ّفعال لدعم منظومة الفتوى وترشيدها، عبر تحليل الكم الكبير من الأسئلة الشرعية وإتاحة إجابات أولية سريعة مبنية على المعلومات الموثوقة، وقد نجحت دار الإفتاء المصرية فى تدشين منصات رقمية ومواقع توثيقية بخوارزميات الذكاء الاصطناعى لرصد الفتاوى الشاذة وتصحيحها قبل انتشارها، ورؤية دار الإفتاء لتوظيف الذكاء ًا للمفتى لا الاصطناعى فى خدمة الفتوى تنطلق من كونه خادم ً بديلا عنه، فالذكاء الاصطناعى يستطيع توفير بيانات وتحليلات تدعم قرار المفتى، ويمكن من إعادة عرض الأحكام الشرعية بأسلوب عصرى مواكب دون تفريط فى الأصالة، كما أنه أداة مهمة لمواجهة سيل المعلومات غير المنضبطة. من هنا اختارت دار الإفتاء المصرية عنوان مؤتمرها العاشر «صناعة المفتى الرشيد فى عصر الذكاء الاصطناعى» لأهمية هذه القضية  ًا، بل جا ًا عابر فلم يكن اختيار هذا العنوان محض اجتهاد أو أمـر بعد دراســة مهمة للواقع المعاصر وتحـديـات متصاعدة يواجهها الخطاب الدينى، وعلى رأسها التأثير المتزايد للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعى على كل مناحى الحياة بما فيها الجـوانـب الشرعية والإفتائية. قبل أيام قلائل من عقد المؤتمر يومى (١٣-١٢) أغسطس الجارى ّاد مفتى الديار التقت «الوفد» فضيلة الأستاذ الدكتور نظير عي
المصرية رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم، وهذا نص الحوار مع فضيلته.

● بداية... تعقد دار الإفتاء المصرية مؤتمرها السنوى خلال أيام تحت عنوان «صناعة المفتى الرشيد فى عصر الــذكــاء الاصـطـنـاعـى».. فـمـاذا عـن أهــم مــحــاوره؟ وهـل للفتوى علاقة بالذكاء الاصطناعي ًا عن ًا معبر
●● نعم، يحمل مؤتمرنا هذا العام عنوان اللحظة الراهنة وتحدياتها، وهو «صناعة المفتى فى عصر الـذكـاء الاصطناعى»، حيث نرصد من خلاله جملة مـن المـحـاور الحيوية، مـن أبـرزهـا: أثـر الذكاء الاصطناعى على الفتوى، وتأهيل المفتى للتعامل مع الوسائط الرقمية، وأخلاقيات توظيف التكنولوجيا فى المجال الدينى، إضافة إلى استعراض تجارب الدول فى رقمنة الإفتاء ومواجهة الفتاوى المضللة. 

أما عن علاقة الفتوى بالذكاء الاصطناعى، فإننا نؤمن أن التقنية أداة يمكن تسخيرها لخدمة العلو ً الشرعية، ومن ذلك الإفتاء، لا أن تكون بديلا عن المفتى أو أن تنتج فتاوى دون وعى أو اجتهاد بشرى. فنحن نسعى إلى الاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعى فى ضبط إدارة البيانات وتحليل السياقات وتيسير الوصول إلى المعلومات، ولكن القرار الإفتائى النهائى والاجتهاد ُبنى على العل ًّا ي ًا إنساني الفقهى يجب أن يظل شأن والتقوى وإدراك الواقع والفهم المقاصدى.
● ما أهم التحديات الأخلاقية التى تفرضها تطبيقات الذكاء الاصطناعى على عمل المفتي؟ ًا لا يمكن
●● تطبيقات الذكاء الاصطناعى باتت واقع ُ تجاهله، وهى تستخدم فى مجالات متعددة، منها المجالالإفتائى. غير أن دخول هذه التكنولوجيا المتقدمة إلى ساحة الفتوى يفرض علينا تحديات أخلاقية ومهنية الوعى والبصيرة الشرعية. ّ بالغة الحساسية، يتعين التعامل معها بقدر كبير من من أبرز هذه التحديات اختزال العملية الإفتائية إلى مجرد نتائج تصدر عن خوارزميات مبرمجة، دون تقدير لحجم المسئولية الشرعية والإنسانية التى تقتضيها ُ الفتوى. فالفتوى ليست مجرد معلومة تستخلص من
قاعدة بيانات، وإنما هى اجتهاد علمى دقيق يصدر عن تأثيرها على الفرد والأسرة والمجتمع. فالمفتى يجب أن ٍ عالم يتحمل مسئولية الكلمة أمام االله تعالى، ويدرك ً ًّ ً ا بالنصوص الشرعية مدركا للواقع وقـادر يكون مل ًا لمآلات الفتوى، على إنزال الحكم على الواقع، ومقدر كما أنه يتعامل مع الإنسان، بحالته النفسية، وظروفه الاجتماعية، وسياقه الثقافى، وهو ما لا يمكن أن تدركه الآلة مهما بلغت دقة برمجتها. ٍ وهناك تحــدّ آخـر بالغ الأهمية يتمثل فى انحياز ًا، البيانات التى تبنى عليها هـذه التطبيقات أحيان فالذكاء الاصطناعى يتعلم من خلال ما يغذى به من بيانات، وهذه قد تكون محدودة أو تمثل اجتهادات فقهية
أحادية، ما يؤدى إلى إصدار فتاوى غير دقيقة أو غير ممثلة للتنوع المذهبى والثراء الفقهى الـذى يتميز به تراثنا الإسلامى. وهنا قد يتعرض المستخدم لتشويش أو انغلاق فقهى دون أن يدرى. كما أحذر من إشكالية انعدام الضمير أو الإحساس
لدى هذه الآلات، فهى لا تخشى االله، ولا تعقل المقاصد الشرعية، ولا تشعر بمعاناة السائل، ولا تراعى الحكمة والرحمة التى يجب أن تتحلى بها الفتوى. ًا أن الفتوى لا تكون صحيحة إلا إذا جمعت بـين الـدقـة فـى الاستنباط، ُ نحن فى دار الإفتاء ندرك تمام والبصيرة فى فهم الواقع، والرحمة فى تطبيق الحكم، وهذا ما لا يمكن للآلة أن تحققه بمفردها. ُستخدم لذلك، أؤكد أن الذكاء الاصطناعى يجب أن ي عن المفتى الإنسان. نحن لا نرفض التقنية، بل نرحب بها ُ فى العمل الإفتائى بصفته أداة م ً ساعدة، وليس بديلا إذا خضعت لضوابط شرعية ومهنية وأخلاقية دقيقة، تحفظ للفتوى قدسيتها، وتضمن سلامة المنهج، وتحمى المجتمع من التضليل أو الانحراف.
● كيف يـوازن المفتى بين الحكمة الشرعية والابتكار التقني؟ التحدى الذى نواجهه فى هذا العصر الذى تتسارع فيه ّ ●● هذا السؤال فى غاية الأهمية، لأنه يمس جوهر التطورات التكنولوجية بشكل غير مسبوق. فـالمـفـتـى يـجـب أن يــــوازن بــين الحـكـمـة الشرعية والابتكار التقنى من خلال فهم عميق لنصوص الشريعة ومقاصدها، ثم إدراك دقيق لطبيعة التقنيات الحديثة.
ُ فالشريعة الإسلامية تعلى من قيمة المصلحة ورفع الحرج، ولا ترفض التجديد أو التطور، ما دام ذلك يتم الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعى وتقديم الفتوى، ً وفق ضوابط الشرع وأصوله. لذا، لا نرى تعارضا بين بشرط أن تبقى هذه الأدوات خاضعة لإشراف العلماء وألا تنفرد بإصدار الأحكام. فى دار الإفتاء المصرية، نعمل على إدماج هذه التقنيات بشكل مـدروس، فنستخدمها لتحليل الأسئلة، وتيسير ُ الوصول إلى الأرشيفات الفقهية، لكنها لا ت ً ستعمل أبدا فى إصدار الفتاوى دون تدخل بشرى من علماء مؤهلين؛ فالفتوى ليست مجرد عملية حسابية أو تحليل لغوى، بل أمور لا يمكن للآلة أن تستوعبها بمفردها. ً تتطلب إدراكا للسياقات والنوايا وظروف السائل، وهذه ًّا، ًّا وتقني والـتـوازن هنا يتطلب تأهيل المفتى علمي
وتوفير بيئة معرفية تجمع بين الفقهاء والمختصين فى التكنولوجيا. فالحكمة فى التعامل مع التطور التقنى ليست فى رفضه، بل فى توظيفه لخدمة المقاصد العليا للشريعة، وحماية الإنسان وكرامته، وتيسير حياته دون المساس بثوابتها.
● مـا آلـيـات صناعة المفتى الـرشـيـد فـى عصر الـذكـاء الاصطناعى من وجهة نظركم؟
●● صـنـاعـة المـفـتـى الـرشـيـد فــى عـصـر الــذكــاء الاصطناعى تتطلب مقاربة جديدة تجمع بين التأصيل
الشرعى المتين والتأهيل المعرفى المعاصر. فالمفتى اليوم ًا من علوم ًا بالتحولات ً لا يكفى أن يكون حافظا للمتون أو متمكن الشريعة فحسب، بل يجب أن يكون واعي ًا من أدوات تحليل الواقع واستيعاب ً الرقمية، مدركا لأثـر التكنولوجيا فى تشكيل الوعى والسلوك، ومتمكن مستجداته.
من هنا، تأتى أهمية تطوير مناهج إعــداد المفتين لتجمع بين علوم التراث والعلوم الاجتماعية والرقمية، ُفتى بمعزل عـن الـواقـع ولا ينجرف وراء بحيث لا ي مستحدثاته دون ضوابط. ومـن بين الآلـيـات الأساسية التى نراها ضرورية:
إدراج مــواد عـن الـذكـاء الاصطناعى وأثــره فـى حياة الإنسان ضمن برامج إعداد المفتين، إلى جانب التدريب
العملى على أدوات التكنولوجيا الحديثة، ومهارات تحليل البيانات وفهم اللغة الرقمية. كما نؤكد أهمية تنمية ُحسن التمييز بين ما هو الحس النقدى لدى المفتى، لي  ثابت وما هو متغير، وبين ما يدخل ضمن وسائل العصر.

ومـا مساساً  يبثوابت الـديـن. ومـن الآلـيـات المهمة  أيضا تعزيز الشراكة بين المؤسسات الإفتائية والمراكز
التكنولوجية، لضمان استثمار التقنيات فى خدمة الفتوى ً لا فى تقويضها.لـــذا نـحـن فــى حـاجـة إلـــى إنــشــاء وحــــدات بحثية
متخصصة فـى الـذكـاء الاصطناعى، وإطــلاق برامج تدريبية للمفتين تشمل مـهـارات الـتـواصـل الرقمى، وتحليل اتجاهات الفتوى فى الفضاء الإلكترونى، إلى جانب التأكيد الدائم على مركزية الإنسان فى الفتوى، ُ لأن الذكاء الاصطناعى مهما تطور، يظل أداة لا تغنى عن بصيرة العالم وضميره، فالمفتى الرشيد فى هذا ا نابضا بالحكمة ً ً العصر هو من يملك أدوات العصر وقلب الشرعية.
● مـا تقييمكم لحـالـة الـفـوضـى فـى إصــدار الـفـتـاوى والاجتهادات الشرعية فى العالم العربى واتخاذ البعض مـجـال الـفـتـوى وسـيـلـة لتضليل الـنـاس والخـــروج على ثوابت الإسلام؟
●● ما نراه اليوم من فوضى فى إصدار الفتاوى فى بعض الدول والمجتمعات العربية هو أمر بالغ الخطورة، ويشكل أحد التحديات الكبرى التى تواجه العقل الدينى المعاصر. الفتوى فى أصلها وظيفة جليلة، ومقامها من أشرف المقامات فى الإسلام، لأنها ترتبط بتوجيه الناس ًا من الأمن الفكرى فى أمور دينهم ودنياهم، وتشكّل جزء والدينى للمجتمع. لكن حين يتصدر لها من لا علم له، ّ أو يستخدمها بعض المتطفلين على العلم كــأداة لبث الفتنة أو تحقيق مآرب سياسية أو شخصية، فإن الفتوى
تتحول من وسيلة هداية إلى وسيلة تضليل وهدم. وقد رأينا كيف استغلت بعض الجماعات المؤدلجة وأصحاب الأفكار المتشددة أو المنحرفة عن صحيح الدين مجال الفتوى لتبرير العنف، ونشر الكراهية، والطعن فى ثوابت العقيدة والشريعة، مستندين إلى فهم سطحى أو ًا إلى فتاوى ملفقة ومفتراة مغلوط للنصوص، بل أحيان هذه الظاهرة لا تقتصر على الجماعات وحدها، بل غير المنضبطة، حيث يمــارس الاجـتـهـاد بـلا أدوات، ً نجدها أيضا فى بعض المنصات الرقمية أو القنوات وتقدم الفتوى بلا مرجعية ولا تحقق، ما يربك وعى الناس ويفقدهم الثقة فى المرجعيات الحقيقية. ولهذا نؤكد استمرار ضـرورة تفعيل دور المؤسسات الدينية الرسمية المعتمدة، مثل دور الإفتاء، وهيئات العلماء، واللجان الشرعية، التى تملك الخبرة والعلم والانضباط المنهجى، والتى تتعامل مع الفتوى بمسئولية وأمانة. كما نؤكد أهمية التشريع والتنظيم القانونى لمجال الفتوىمن

 

تقنين الفتوى وتجـريم الفتاوى العشوائية التى تضر بالصالح العام. ونحن فى دار الإفتاء المصرية نسعى
إلى التصدى لهذا الخطر من خلال نشر الوعى الدينى الرشيد، والتوسع فى برامج تدريب المفتين، ورصد الفتاوى المتطرفة، وتقديم البديل العلمى الموثوق الذى ُ ّحصن المجتمعات من الوقوع فى براثن الفوضى الفكرية
ي والتشدد الدينى. ًا ظــهــرت مــوجــة اعــتــراضــات عـلـى ثـوابـت
● مــؤخــر ونـصـوص دينية وعـقـائـديـة ضـاربـة بـذلـك قـانـون ازدراء الأديـان عـرض الحائط ممن يدعون أنهم يفكرون بلغة العصر.. ما ردكم على ذلك؟
●● الطعن فـى ثـوابـت الـعـقـيـدة، والتشكيك فى النصوص الدينية خاصة القطعية، هو أمر مرفوض لا يمكن تبريره تحت أى مسمى، سواء كانت «حرية التعبير» أو «التفكير العصرى». فهناك فارق واضح بين التفكير والاجتهاد المشروع، وبين الهدم والتشكيك المقصود. ًا ضد التفكير، بل دعا إليه، وكرم  الإسلام لم يكن يوم العقل، وفتح باب الاجتهاد بضوابطه. أما ما نراه اليومٍ من تجاوزات، فهو عبث بالثوابت وتعدّ على المقدسات ًا، باسم التنوير، وهو فى حقيقته تضليل وليس تفكير
واستفزاز للمجتمع واستهانة بعقيدته وهويته. ما يؤسف له أن بعض هؤلاء المتجاوزين يتكئون على وسائل الإعــلام أو وسائل
مستغلين ضعف الثقافة الدينية لدى ّ الـتـواصـل الاجتماعى لـبـث أفـكـارهـم، البعض، ومحاولين زعزعة ثقة الناس
فى تراثهم الدينى، متغافلين عن أن حرية التعبير ليست حرية فى إهانة معتقدات الآخرين أو النيل من الثوابت الدينية التى
أجمع عليها علماء الأمة عبر قرون. هذا الـنـوع مـن الـطـرح ليس مـن الاجتهاد فى شـيء، بل هو لـون من ألــوان ازدراء الدين، ّ د لصورة الإسلام فى نفوس وتشويه متعمًّ ًّا علمي الناس، وهو ما يتطلّب ر ًا، إلى جانب الحزم رصين القانونى الرادع. وهنا ندعو وسائل الإعـــلام والمـؤسـسـات الـثـقـافـيـة إلـــى عـدم الــتــرويــج لـــهـــؤلاء أو تـقـديمـهـم بوصفهم «مفـكـريـن

 

تنويريين»، بينما هم فى الحقيقة يفتقرون إلى الحد الأدنى من العلم الشرعى أو حتى الموضوعية الفكرية. ونحن فى دار الإفتاء نحرص على الرد العلمى والمنهجى على كل هذه المزاعم، وتوضيح الحقائق للناس، لأننا
نؤمن أن التنوير الحقيقى لا يكون بهدم الثوابت، بل بتجديد الخطاب الدينى فى إطار الحفاظ على أصول الدين وثوابته.
● ماذا عن دور دار الإفتاء فى قضية بناء الوعي؟ ●● دار الإفتاء المصرية تضطلع بـدور محورى فى قضية بناء الوعى، باعتبارها من أهم القلاع العلمية والدينية التى تتعامل مع قضايا الناس الدينية والمعيشية
بشكل مباشر، ومن ثم فإن تأثيرها فى تشكيل الوعى العام، خاصة الوعى الدينى، بالغ الأهمية. ونحن ندرك أن معركة اليوم ليست فقط معركة أمن أو اقتصاد، بل هى معركة وعى فى المقام الأول، وعلينا أن نواجه موجات التشكيك والشائعات والتزييف الفكرى بثقافة واعية، وعقل نقدى، ودين راسخ فى النفوس. ومن هذا المنطلق، عملت دار الإفتاء خلال السنوات المـاضـيـة على تعزيز حـضـورهـا فـى المشهد الفكرى والثقافى من خلال العديد من المبادرات، مثل إنشاء «مركز سلام لدراسات التطرف»، الذى يشتبك مــع قـضـايـا الـتـشـدد والتكفير وخـطـاب ً ا ًّ ً ا بديلا قائم ًا علمي الكراهية، وينتج خطاب على التأصيل والانفتاح المعرفى. كما أطلقنا مبادرة «بناء الوعى» التى تهدف إلى ترسيخ الفهم الصحيح للدين، ونقد
القراءات المنحرفة، والرد على الشبهات المـعـاصـرة الـتـى تـثـار حـــول الإســـلام. وكـذلـك قمنا بتطوير محتوى الفتوى لتكون أداة مـن أدوات بناء الـوعـى، لا مجرد إجابات على الأسئلة، فنحن نصوغ الفتوى بلغة عصرية، تراعى الواقع، وترد
على الإشكاليات المـطـروحـة، وتقدم للتفكير الرشيد. ً للمسلم منهج ً ا متكاملا كـذلـك، تسعى الـــدار إلــى بناء الــــوعــــى عـبـر تدريب وتأهيل المفتتين محلياً ودولياً من خلال الجهود وتعزيز الخطاب الدينى المعتدل فى مواجهة ُ الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم، لتوحيد استخدام التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل بشكل ً دعـاة الفوضى الفكرية والتطرف. وتعمل أيضا على احترافى، لنشر المعرفة الدينية السليمة، وتصحيح المفاهيم المغلوطة. فنحن نؤمن أن بناء الوعى لا يقتصر على مواجهة التطرف فقط، بل يمتد ليشمل التصدى للخرافة، ومكافحة الإلحاد، ودحض الشبهات، وترسيخ القيم الإنسانية فى وجـدان المجتمع، بما يحقق الأمن والاستقرار ويعزز مناعة الإنسان المصرى والعربى ضد أى محاولات لزعزعة فكره أو انتمائه.
● كـل يـرى الـدعـوة إلـى تجديد الخـطـاب الدينى وفق هــواه.. فما مفهوم تجـديـد الخـطـاب الـديـنـى مـن وجهة نظركم؟ ولمــاذا يقتصر التجديد على الخـطـاب الدينى وحده؟ وما آليات التجديد فى رأيكم؟
●● الحقيقة أن مسألة تجديد الخـطـاب الدينى ًا ممن أصبحت من أكثر القضايا إثارة للجدل، لأن كثير يتحدثون عنها يفعلون ذلك دون ضبط للمصطلحات أو يفسر «التجديد» بحسب أهوائه ومراميه؛ فالبعض يراه َف ً هم لطبيعة هذا التجديد، ولذلك نجد أن كـلا ّ منهم ً ً ا فى الثوابت، والآخر يظنه تعطيلا للنصوص، بينما تغيير هو فى حقيقته الشرعية والواقعية أمر أصيل فى ديننا،
ومفهوم منضبط بضواب ً ط الشرع، وليس انخلاعا من الدين أو خضوعا لضغط الواقع. وتجديد الخطاب الدينى من وجهة نظرنا يعنى إعادة ً تقديم الإســلام بفهم صحيح يراعى الثوابت التى لا ًا للواقع. ًا مناسب تتغير، والمتغيرات التى تتطلب اجتهاد
فليس المقصود تجديد الدين نفسه، بل تجديد آليات عرضه وفهمه وتوصيله للناس، بما يتلاءم مع طبيعة العصر ومستجداته، وبمـا يعيد الثقة فى المرجعيات الدينية الراسخة ويزيل التشويه الذى ألحقته جماعات التشدد أو دعاوى التفريط. ولقد قال النبى صلى االله عليه وآله وسلم: «إن االله يبعث لهذه الأمة على رأس كل ُجدد لها دينها»، أى يجدد الفهم، ويزيل ما
مائة سنة من ي علق به من تشويه أو تحريف أو سوء عرض. أما لماذا يختزل التجديد فى الخطاب الدينى وحده،
فهذه إحدى الإشكاليات الكبرى التى نعيشها اليوم؛ إذ إن واقعنا لا يحتاج إلى تجديد فى الخطاب الدينى فحسب،
بل فى كل مجالات الحياة: التعليم، والإعلام، والسياسة، والثقافة، بل وحتى الخطاب الاقتصادى والاجتماعى ً فالدين ليس منفصلا عن هذه المنظومات، بل يتقاطع معها فى كثير من مفاصل الحياة، ولا يمكن أن نطلب من الخطاب الدينى أن يحدث تحولاً جذرياً في وعي الناس  بينما بقية المؤسسات تمارس ذات الأنماط القديمة فى التفكير أو التواصل. فالتجديد ينبغى أن يكون مشروعا ً ًا يلقى فقط على كاه ً ً ا متكاملا، وليس عبئ مجتمعي العلماء والدعاة.
أمــا آلـيـات التجديد مـن وجـهـة نـظـرى، فهى تبدأ ً أولا بإحياء منهج الاجتهاد المنضبط الـذى يتكئ على أدوات العلم الشرعى الرصين ويستوعب واقع الناس ًا بالواقع واحتياجاتهم. ويجب أن يكون المجدد فقيه
كما هو فقيه بالنصوص. ثم لا بد من مراجعة الخطاب الـدعـوى والإعـلامـى والتعليمى، لنضمن اتساقه مع مقاصد الشريعة، ومراعاته لحاجات الشباب وتحديات العصر. كما يتطلب الأمر التوسع فى تدريب العلماء على فنون التواصل، ومهارات التفكير النقدى، وتعميق فهمهم بالتغيرات الثقافية والتكنولوجية. ولابد من التفريق بين «الثوابت» التى لا مساس بها، و«المتغيرات» التى يجوز فيها النظر والاجتهاد، حتى لا يختلط الأمر بين التجديد والتبديد.
● مـاذا عن دور الفتوى الرشيدة وعلاقتها بالنزاعات الدولية وما ضوابطها؟ والـدور الـذى يمكن أن تلعبه فى إخماد الصراعات الدولية؟
ً ●● الفتوى الرشيدة يمكن أن تكون عاملا ً فاعلا فى ّ ما فى عصر تتشابك فيه إطفاء نيران النزاعات، لا سي القضايا الدينية مع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث تتحول بعض النزاعات إلى صراعات تستغل فيها الفتوى لتأجيج العنف أو تأصيل الكراهية. وهنا تتجلى خطورة الفتوى إذا صدرت بغير علم أو خالفت مقاصد الشريعة؛ لأن الكلمة ُ الدينية، عندما تنتزع من سياقها ُوتستعمل خـارج إطارها، يمكن أن تكون شـرارة لنزاع من أن تكون مفتاحا للسلام والتعايش. ً طويل، بدلا ً
لكن الفتوى الرشيدة، المستندة إلى نصوص الوحى وروح المقاصد، والمُنطلقة من فهم عميق للواقع وتعقيداته،
ُتسهم فى رأب الصدع، وتهدئة التوترات، وبيان الأحكام الشرعية الحقيقية التى تدعو إلـى السلام، وترف ُ الـعـدوان، وتعلى من قيمة النفس الإنسانية. فالشرع الحنيف ينهى عن البغى والعدوان، ويحث على العدل فى
َلا التعامل حتى مع من نختلف معهم، ويؤسس لمبدأ {و َ ُب َ أَ ْقر َّلا َ تْعِدُل ْ وا اع ِدُل ُ وا هو َ َى أ ٍْم َ عل ِ َمَّنكُْم َ شَن ُآن َ قو
َ ْجر ي َى}. ِ َّلتْقو ل أما الضوابط التى ينبغى أن تحكم الفتوى فى هذا السياق، فأهمها: العلم الراسخ، والفهم الدقيق للواقع، والتحقق من الملابسات، وعدم الانجرار خلف العواطف أو الضغوط السياسية، والتمسك بالمنهج الوسطى الذى يتسم به الإسلام. كما يجب أن تصدر الفتوى من جهة مؤسسية معتبرة، لا من أفراد غير مؤهلين أو منصات غير مسئولة.
وفى هذا الإطار، تلعب دار الإفتاء المصرية- من خلا ًّ ا ًا مهم الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم- دور  ًّا، وتقديم
فى توحيد الرؤى وضبط بوصلة الفتوى عالمي خطاب دينى رشيد يسهم فى إطفاء حرائق النزاع، لا فى إذكائها، ويعزز ً من قيم المصالحة، بدلا ّ من أن يكرس الانـقـسـام. نحن نؤمن أن الفتوى، حـين تكون راشـدة
ًا للإنسانية، ومسئولة، فإنها تصبح أداة للسلام، ومنبر ًا للتواصل بين الثقافات. وجسر
● تـطـرح الـتـكـنـولـوجـيـا الحـديـثـة فـى عـالمـنـا المـعـاصـر السريع تحديات أخلاقية عديدة... كيف ترى هذا الطرح؟ وما أهم هذه التحديات من وجهة نظر فضيلتكم؟
●● التكنولوجيا الحـديـثـة، وعـلـى رأسـهـا الـذكـاء ًا بالتحديا ا جديدا مليئ الاصطناعى، فرضت واقع
الأخلاقية، أبرزها انتهاك الخصوصية وتحويل البيانات الشخصية إلى سلعة، وهو ما يتعارض مع تعاليم الشريعة التى تكرم الإنـسـان وتحمى خصوصياته. كما نشه ًا فى تزييف الحقائق ونشر الأخبار الكاذبة، ًا خطير تحدي بما يؤدى إلى تضليل المجتمعات وزرع الفتن. ومن هنا، فإن الواجب على العلماء والمؤسسات الدينية أن يقوموا بدورهم فى التوجيه، من خلال خطاب دينى عصرى ومتزن، يضع معايير واضحة لاستخدام التكنولوجيا بما يخدم الإنسان ويحفظ كرامته، ويمنع توظيفها تضليل المجتمعات أو انتهاك الثوابت والقيم.
● ماذا عن كيفية تحول مؤسسات الفتوى إلى العصر الرقمي ًا، بل أصبح ضرورة

●● التحول الرقمى لم يعد خيار ٍ حتمية فى عصر يتسم بالتسارع التكنولوجى، وقد أولت
ً ً ا بالغا بهذا الجانب، حي دار الإفتاء المصرية اهتمام وضعت خطة إستراتيجية لتحويل العمل الإفتائى إلى نسق رقمى متكامل.بدأنا بإطلاق منصات إلكترونية متعددة، وتطبيقات ذكية على الهواتف المحمولة، تقدم الفتوى الصحيحة بلغة معاصرة وسهلة، وتستهدف مختلف الفئات، خاصة الشباب ًا لـلأدوات، بل هو التحول الرقمى ليس فقط تطوير
تطوير لمنهجية التفكير الإفتائى نفسه، بحيث يستوعب تغيرات العصر، ويستفيد من معطياته لخدمة الدين والإنسانية فى آن واحد ا ملموسا فى ً ً ا.. هل حققت دار الإفتاء نجاح ً
● أخـيـرّ ـا؟ وكـيـف تـرى تأثير
مـواجـهـة الفكر المـتـطـرف إلـكـتـرونـي وسائل التكنولوجيا والتواصل الاجتماعى فى تضليل فكر الشباب؟
●● نعم، بحمد االله، استطاعت دار الإفتاء المصرية أن ا فى مواجهة الفكر المتطر ا ملموسا ومؤثر على الصعيد الرقمى والإلكترونى، سواء من خلال بناء ً تحقق نجاح ً بنية معلوماتية قوية أو من خلال تطوير آليات الرصد ًا أن معركة مواجهة والتحليل والـرد. فقد أدركنا مبكر التطرف لا يمكن أن تكسب بالوسائل التقليدية فقط، بل يجب خوضها فى ساحات الفضاء الإلكترونى، حيث تتمدد جماعات التطرف، وتروج أفكارها بأدوات عصرية تغرى العقول الشابة وتخاطب عواطفها بلغة تبدو لهم جذابة.
مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة الذى تطور ً من هذا المنطلق أيضا أنشأت دار الإفتاء المصرية ًا وهو مركز سلام
ًّا كبيرلدراسات التطرف والإسلاموفوبيا، وهو معنى بدراسة ً بعد ذلك وأصبح مركزا بحثي التطرف ومناهج مكافحته والوقاية منه، ويسعى إلى تأصيل فلسفة الدولة المصرية ودار الإفتاء فى نطاق المواجهة الفكرية الشاملة لظاهرة التطرف، ويعتبر «سلام» ترجمة مؤسسية لخبرات دار الإفتاء المتراكمة فـى مواجهة جماعات الفكر التكفيرى بمـا تتضمنه من خبرات علمية ومعارف إفتائية ومدركات معرفية بمشارب التطرف.