رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي

قبطية صعيدية من المنيا انقذت ثوار ثورة 1919 من الإعدام

دولت فهمي
دولت فهمي

في ركنٍ قصيٍّ من أرضِ الكنانةِ، حيثُ تتعانقُ أشجارُ الجميزِ مع أنينِ النيلِ، ويمتزجُ صمتُ الريفِ بثقلِ الأسرارِ، وُلدتْ "دولتُ فهمي" في قريةٍ تُدعى أبو عزيزَ، بمحافظةِ المنيا... لم تكنْ تعلمُ، وهي تتعلّمُ القراءةَ على نورِ الكانونِ، أنها ستغدوَ يومًا مأساةً تمشي على قدمَيْنِ، تتوارى خلف ابتسامةٍ صارمةٍ، وضميرٍ يقظٍ لا ينامُ.

 

- "ثورةُ شعبٍ... ومأساةُ امرأة " ..

 

لم تكنِ الثورةُ في مصرَ شيئًا غريبًا، فالبلادُ منذ الأزلِ وهي تتمرّدُ: مرةً على الفرعونِ، وأخرى على الباشا، وثالثةً على المحتلِّ الإنجليزيِّ. لكن الغريبَ أن الحريةَ دائمًا ما تُكلّفُ الأبرياءَ أرواحَهُم، وتُكلّفَ النساءَ شرفَهُنَّ! وكانت ثورةُ 1919، بقيادة الزعيم سعد زغلول، إحدى أعظمِ لحظاتِ الرفضِ الشعبيِّ للاحتلال، وشرارةً أشعلتْ النيرانَ في صدورِ المصريينَ من الإسكندريةِ إلى أسوانَ.

 

- " قصةُ الفتاةِ القبطيةِ" ..

 

الفتاةُ القبطيةُ، ناظرةُ مدرسةِ البناتِ، ذاتُ الهيئةِ الوقورةِ والكلمةِ الرصينةِ، ما كان أحدٌ ليظنَّ أنها تحملُ بين طيّاتِ قلبِها نبوءةً للفداءِ. تعملُ بهدوءٍ، تسيرُ بتؤدةٍ، وتُخفي خلف جدرانِ المدرسةِ ويلاتِ المؤامرةِ على المحتلِّ.لم يكنْ عملُها رسميًا، بل كانت عضوًا في تنظيمٍ سريٍّ يُدعى "اليدُ السوداءُ"، بقيادةِ رجالٍ يعرفون أن الثوراتِ لا تُقادُ من خلفِ المكاتبِ.

 

- " عبدُ القادرِ... واللقاءُ المصيري "

 

في ليلٍ من ليالي القاهرةِ الكابيةِ، خرجَ شابٌّ يُدعى "عبدُ القادرِ شحاتةُ"، لا يتجاوزُ عمرُهُ الحاديةَ والعشرينَ، يحملُ في جيبِه قنبلةً، وفي قلبِه نذرًا للوطنِ. أُمرَ بإغتيالِ وزيرٍ قبِلَ المنصبَ في ظلِّ الاحتلالِ، وما أصعبَ أن يُغتالَ رجلٌ بالكبرياءِ أكثرَ من الرصاصِ. لكنَّ القنبلةَ أخطأتْ هدفَها، وتحوّلَ المشهدُ من عمليةٍ فدائيةٍ إلى لعبةِ مطاردةٍ في أزقةِ القاهرةِ.هربَ الشابُّ الثائرُ، ووجدَ نفسَهُ في حضرةِ مدرسةٍ قبطيةٍ للبناتِ. هناك، ظهرتْ فجأةً دولتُ فهمي، كأنها بطلةٌ في روايةٍ لا تدري أنها تكتبُ فصولَها بلحمِها ودمِها.

 

- "التضحيةُ بالنفسِ والسمعةِ" ..

 

أخذتِ السلاحَ منه، أخفته، وثبتتْ في موضعِها كتمثالٍ من طينِ مصرَ، لا يهتزُّ.لكنَّ الطامةَ الكبرى لم تكنْ في الاختباءِ، بل في الخطةِ البديلةِ. أُمرَ الشابُّ أن يعترفَ أنه قضى ليلتَهُ عندَها. وهي، وبدون أن ترفَّ لها عينٌ، دخلتْ إلى التحقيقِ، وقبّلته علنًا، وأعلنتْ أنه عشيقُها. ذبحتْ دولتُ فهمي سمعتَها على مذبحِ الوطنيةِ.

 

- العارُ المزعومُ... والموتُ المجازيّ

 

لم يعرفْها قبلَ العمليةِ. لم تلمسْهُ من قبلُ. لكنها آمنتْ أن بعضَ الأكاذيبِ أنبلُ من ألفِ حقيقةٍ.فكيفَ لمجتمعٍ يُقدّسُ الأعراضَ أن يستوعبَ أن امرأةً تكذبُ على نفسِها لتصونَ روحًا، لا لتسترَ شهوةً؟ فُتحتْ أبوابُ الجحيمِ. ضجّتِ الصحفُ. استُدعيت للتحقيقِ. ضُغطَ عليها. ولم يكنْ أمامَها إلا طريقُ الصمتِ.

 

لم تتراجعْ. لم تنكسرْ. وخرجَ عبدُ القادرِ من السجنِ بعدَ أربعِ سنواتٍ، يحملُ قلبَهُ في كفَّيْه، يبحثُ عنها كمن يبحثُ عن الخلاصِ.- " ذبحٌ باسمِ الشرفِ... وخنجرٌ في خاصرةِ الوطنِ " .. لكنَّ الأقدارَ، لا تُجيدُ ردَّ الجميلِ، بل تُجيدُ ذبحَ الطاهرينَ باسمِ الطهارةِ.علمَ عبدُ القادرِ أن أهلَها ذبحوها طعنًا في الشرفِ... ولم يعلموا أنهم طعنوا الوطنَ. لم يسألوا عن الحقيقةِ. لم يقتربوا من جوهرِها. اكتفوا بعنوانِ فضيحةٍ، وقتلوا ما تبقّى من الضوءِ في بيتِهم.

 

- " شهيدةُ الصمتِ " ..

 

"دولتُ فهمي" لم تمتْ برصاصةٍ، ولا بمرضٍ، بل ماتتْ بسكينِ المجتمعِ، الذي لا يغفرُ للمرأةِ ما يغفرُهُ للرجلِ ألفَ مرةٍ.

 

- " ذاكرةٌ بعينٍ واحدةٍ " ..

 

وفي الأحياءِ القديمةِ لمصرَ، اعتادتِ الذاكرةُ أن تمشي بقدمٍ واحدةٍ، تتذكّرُ من أضاءَ القصورَ، وتنسى من أوقدَ الشموعَ في الزنازينِ. لم يُكتبْ اسمُ دولتَ فهمي على لوحاتِ الشوارعِ، لم تُدَرَّسْ قصتُها في كتبِ التاريخِ، ولم تُزَيَّنْ صورُها جدرانَ المدارسِ. فالبطولاتُ التي تُنجزُ في الظلالِ، لا تصعدُ إلى النورِ، إلا إذا تبنّاها صاحبُ نفوذٍ، أو أخرجَها مخرجٌ شاطرٌ.

 

- " بطولاتٌ في الظلِّ "

 

وكم من "دولتٍ" دُفنتْ، ليس في المقابرِ، بل في الصمتِ...صمتِ العائلةِ التي خجلتْ من التضحيةِ، وصمتِ المجتمعِ الذي يُقدّسُ الغشاءَ أكثرَ من الدمِ، وصمتِ الدولةِ التي تُحبُّ أن تحكي عن الثوراتِ، لا عن ثمنِها.لقد اختارَ القدرُ أن تكونَ نهايتُها في ريفٍ بعيدٍ، على يدِ أخٍ ظنَّ أنه يُطهّرُ الأرضَ من العارِ، بينما كان يغرسُ خنجرَهُ في خاصرةِ الوطنِ.

 

- " هل كان يجبُ أن ترفعَ لافتةً؟ " ..

 

فهل يُعقلُ أن تُذبحَ امرأةٌ لأنها قالتْ كذبةً لتُخفي حقيقةً؟وهل كان يجبُ عليها أن ترفعَ لافتةً تقولَ: "أنا أكذبُ لأحمي وطنًا"؟ لكنْ في بلادِ الشرقِ، ليس للمرأةِ أن تكذبَ، حتى لو كانتْ تكذبُ باسمِ المجدِ.

 

- " قلبٌ لا ينسى " ..

 

في إحدى زوايا الحكايةِ، بقي عبدُ القادرِ شحاتةُ، الرجلُ الذي نجتْ روحُهُ، لكنه ظلَّ أسيرَ ذنبٍ لم يرتكبْهُ، يحملُ اسمَها على لسانِه دعاءً، ويرى وجهَها كلّما غفا.بحثَ عنها ليتزوجَها، ليكفّرَ عن قَدَرٍ لم يطلبْهُ، لكنه لم يجدْ إلا القبرَ، ودمعةً خرساءَ سالتْ من قريتِها ذاتَ مساءٍ.

 

-" ماذا ، لو كتبها نجيب محفوظ"؟ ..ولو جلسَ نجيبٌ محفوظٌ أمامَ حكايةِ دولتَ فهمي، لقالَ:"ما أشبهَها بـنفيسةَ في زقاقِ المدقِّ، تلك التي ظنّوها ساقطةً، بينما كانتْ تسقطُ عن الآخرينَ.وما أشبهَ أهلَها بعائلةِ حميدةَ التي باعتْها من أجلِ نظرةِ الناسِ.لكنَّ الفرقَ أن دولتَ لم تخنْ، لم تضعفْ، لم تساومْ.بل عانقتْ العارَ لتمنحَ غيرَها الشرفَ."

 

- "حينَ نعتذرُ لا نأسفُ " ..

 

واليومَ، يُعادُ إحياءُ قصتِها من بعيدٍ، على شاشةِ السينما، في فيلمٍ عن ثورةِ 1919، بعنوانِ "كيرةُ والجنُّ"، من بطولةِ كريم عبد العزيز وأحمد عز، وقدّمت فيه الممثلة هند صبري شخصيةَ دولت فهمي، لا كبطلةِ حبٍّ، بل كرمزٍ للفداءِ المقموعِ.

 

- " الختامُ اعتذارٌ لا رثاءٌ " ..

آنَ لمصرَ أن تفتحَ سجلَّها، وتمسحَ الغبارَ عن أبطالِها الذين ماتوا واقفينَ، نساءً كانوا أم رجالًا.آنَ للمؤرخِ أن يتوقّفَ عن الكتابةِ بالحبرِ وحدَهُ، ويكتبَ بالدموعِ.آنَ لنا أن نقولَ: هنا مرّتْ دولتُ فهمي، وهنا قُتلتْ باسمِ الفضيلةِ ، وهنا يجبُ أن نقفَ، لا لنبكي... بل لنعتذرْ.