كتبت فى الأسبوع الماضى عن دروس التنمية التى قدمها عمليًا مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق، الذى احتفل مؤخرًا بعيد ميلاده المئة، وكيف تركز سعيه للنهضة على التعليم وتخريج كوادر استثنائية شديدة التميز قادرة على إحداث التغيير اللازم فى كل شىء.
ووصلتنى تعليقات عديدة ومتنوعة تتضمن أبرزها خصوصية كل تجربة عن الأخرى، وتباين المجتمعات، حكومات وشعوبًا فى السعى الحثيث لتحويل قضية التعليم إلى أولوية. إلى جانب الاختلاف بين البيئات الحاضنة للتعليم والاختلاف حول الخطط المقترحة.
ومع هذه التعليقات ومع ما تتبادر إلى الأذهان من تساؤلات فى مسيرة التنمية تذكرت كتابًا هامًا قرأته منذ سنوات تضمن مذكرات رائد تنموى آخر هو رئيس وزراء سنغافورة لى كوان يو، والتى حملت عنوان «سنغافورة من العالم الثالث إلى الأول».
ومنه نتعرف على سنغافورة الستينيات التى كانت شديدة الفقر والبؤس، يسودها الجهل، وتنتشر فيها الأمراض المزمنة، ويغيب عنها الأمن والاستقرار. وكانت أشبه بولاية صغيرة تابعة للاتحاد الماليزى الذى قرر فى منتصف الستينيات طردها حتى لا يتحمل أعباء مشكلاتها، ويومها بكى لى كوان يو علنًا أمام الشاشات تخوفًا من مستقبل مُزرٍ تنتشر فيه الفوضى.
كان كوان يو رئيس الوزراء فى موقف صعب، فالتحديات تحيط به من كل جانب، ولا موارد لديه، وكما ذكر فى مذكراته كان البلد غارقًا فى بحر من الفساد، حيث انتشرت الجريمة إلى أبعد مدى، وتعددت السرقات، وجاهر الجميع بالخروج عن القانون، وصار واضحًا للجميع أنه لا مستقبل أمام الأجيال القادمة.
قال كوان يو وقتها إنه توجه إلى المعلمين الذين كانوا يعيشون فى بؤس ومنحهم أعلى الأجور وطلب منهم بناء الإنسان. وركز الرجل على مدى سنوات حكمه على إرسال البعثات إلى الجامعات فى أوروبا وأمريكا بهدف تخريج كوادر جديدة بعقليات متطورة لصناعة واقع أفضل.
واعتمد الرجل على الموهوبين والمبتكرين بشكل رئيسى فاختار منهم الوزراء والمسئولين واستطاع بفضل الأفكار الجديدة والحلول غير التقليدية تحويل سنغافورة إلى مركز مالى واقتصادى عالمى.
وخلال عقدين من الزمان قدمت سنغافورة أكبر تسهيلات وحوافز لجذب المستثمرين من كافة دول العالم، ووفرت العمالة المدربة والمؤهلة والمتميزة، فى ظل ترسيخ لمبدأ سيادة القانون والاستقرار الأمنى والسياسى. واستفادت الحكومة من الفجوة الزمنية بين عمل بورصات لندن وفرانكفورت ونيويورك لتنطلق بورصتها وتجذب بفضل السياسات الفعالة فوائض الاستثمار.
تبدلت سنغافورة تمامًا قبل أن يتخلى كوان لى عن رئاسة الوزراء، إذ ارتفع دخل الفرد من 400 دولار فى الستينيات إلى أكثر من 20 ألف دولار، وتطور التعليم لتصبح جامعات سنغافورة من أفضل الجامعات فى العالم. كما أصبحت الدولة من أولى الدول الخضراء بما شهدته من تحسين عظيم للبيئة، وهو ما انعكس إيجابيًا على السياحة، والزراعة، وتقدمت الفنون وتطورت وتغير نمط المجتمع تمامًا.
وترك الرجل السلطة سنة 1990 بعد أن حقق لبلاده كل ما تحلم بها، وظل محبوبًا ومقدرًا من الجميع لحين وفاته عام 2015.
لقد انبهر قادة وزعماء العالم بما حققه لى كوان يو، وقال عنه الرئيس الفرنسى جاك شيراك «إن أمر سنغافورة غريب، فقد تحولت خلال 30 عامًا إلى بلد راق. من يرد معرفة سر نجاح هذا البلد الآسيوى فعليه النظر إلى لى كوان يو الذى حول المدينة الى دولة، وجمع حوله العقول اللامعة، ووصلت سنغافورة الى التقدم عبر طريق مختصر مثل الاهتمام بالنظام التعليمى ومحاربة البطالة والادخار».
وكم فى العالم من حولنا من دروس مُعلمة، وسلامٌ على الأمة المصرية.