الإمام أبو الحسن الشاذلي.. مؤسس الطريقة الشاذلية وصاحب البصمة الروحية العميقة
في ركن متوهج من تراث التصوف الإسلامي، يبرز اسم الإمام أبي الحسن الشاذلي، كأحد أعلام السلوك الروحي والمعرفة الربانية، ومؤسس الطريقة الشاذلية التي تُعد من أكثر الطرق الصوفية انتشارًا وتأثيرًا في العالم الإسلامي حتى يومنا هذا. هو علي بن عبد الله بن عبد الجبار الأغماري المغربي، المعروف بـ"أبي الحسن الشاذلي"، نسبة إلى قريته "شاذلة" الواقعة قرب تونس.
المولد والنسب
ولد الإمام الشاذلي عام 593هـ (1196م) وتوفي عام 656هـ (1258م)، عن عمر يناهز 63 عامًا، وتنتسب أسرته إلى آل البيت، تحديدًا إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقد وُلد في قرية شاذلة، ومنها جاءت تسميته، بينما يُرجع أصله إلى قبائل غُمارة في ريف المغرب الأقصى.
رحلة العلم والتصوف
كانت نشأته الأولى في المغرب، وهناك تتلمذ على يد الإمام عبد السلام بن مشيش، الذي كان له تأثير روحي بالغ في تشكيل ملامح الإمام الصوفية، حتى قال عنه: "شيخي عبد السلام هو البحر الذي لا يُدرك قعره".
انتقل بعدها إلى تونس وجبل زغوان، حيث اعتكف وتفرغ للعبادة، ودرس على يد أبو سعيد الباجي علوم الشريعة، وبرغم أنه كان ضريرًا، فقد اشتُهر بمناظراته العلمية، واتجه بعد ذلك إلى التصوف وأخذ طريق المجاهدة والرياضة الروحية.
مقامه في مصر وانتشار طريقته
استقر الإمام الشاذلي في الإسكندرية، وتزوج هناك وأنجب أبناءه: شهاب الدين أحمد، وأبو الحسن علي، وأبو عبد الله محمد، وابنته زينب. وفي الإسكندرية بدأ نجم طريقته يسطع، فاجتمع حوله المريدون وبدأت الطريقة الشاذلية تنتشر في مصر، ثم إلى بلاد الشام والحجاز واليمن والمغرب، ولا تزال مستمرة حتى اليوم.
مواقف وشهادات العارفين
عرف عن الإمام الشاذلي قوة البصيرة وعمق المعرفة بالله. وقد قال عنه ابن دقيق العيد:"ما رأيت أعرف بالله منه"
ورغم هذا، تعرض هو وجماعته للأذى والنفي من المغرب، ووردت مراسلات تحذر من دخوله إلى الإسكندرية، ولكن مع ظهور كراماته، تغيّرت النظرة إليه وأصبح من رموز الولاية والصلاح في مصر.
كما شهد له الشيخ عز الدين بن عبد السلام، والشيخ محيي الدين بن سراقة، وغيرهم من أعلام الفقه والتصوف، حيث ذكر أحدهم أنه سمع منه كلامًا "غريبًا، قريب العهد بالله"، مشيرًا إلى غزارة علمه ورقة حاله.
كراماته ووفاته
من أبرز الكرامات المنقولة عنه، ما ذكره الرحالة ابن بطوطة نقلاً عن الشيخ ياقوت العرش، تلميذ الشيخ أبي العباس المرسى، حيث أخبره أن الإمام الشاذلي كان يحج كل عام، وفي آخر حج له طلب من خادمه أن يحمل معه فأسًا وقفة وحنوطًا، وقال له:"في حميثرى سوف ترى"
وعند وصوله إلى حميثرى بصعيد مصر (قرب أسوان)، اغتسل وصلّى ركعتين، وتوفي في سجوده، ليدفن هناك. ومن كراماته أن ماء حميثرى، الذي كان مالحًا، تحوّل بعد غُسله به إلى ماءٍ عذبٍ كثير البركة، ولا يزال هذا المقام مقصداً للزوار حتى اليوم.
من أقواله الخالدة
"ما ولى الله وليًا إلا وضع حبه في قلبي قبل أن يوليه، ولا رفض عبدًا إلا وألقى الله بغضه في قلبي قبل أن يرفضه".
"من أراد أن يُستجاب دعاؤه، فليأت إلى الشيخ الشاذلي".
إرث متجدد
الإمام أبو الحسن الشاذلي لم يؤسس مجرد طريقة صوفية، بل أرسى منهجًا روحيًا متوازنًا يجمع بين العلم والعمل، بين الشريعة والحقيقة، فجمع بين تعاليم الفقهاء ونور العارفين، وسار على هديه مريدون وأئمة تركوا أثرًا بالغًا في تاريخ التصوف الإسلامي.