الذكاء الصناعي يعيد توزيع مراكز الإنتاج العالمية

في ظل التحول العالمي نحو الصناعة النظيفة، يبرز اسم مصر بين الدول الصاعدة التي تقترب بخطى واثقة من مراكز الريادة الصناعية، بحسب ما كشف عنه أحدث تقارير "ائتلاف المهمة الممكنة" (Mission Possible Partnership).
فبينما احتفظت الصين بصدارة الاستثمارات العالمية في المصانع النظيفة باستحواذها على 25% من إجمالي الاستثمارات البالغة 250 مليار دولار، وتلتها الولايات المتحدة بنسبة 22%، ثم الاتحاد الأوروبي بـ14%، تُسجِّل مصر، إلى جانب الهند والبرازيل، صعودًا لافتًا ضمن ما يُعرف بـ"الحزام الصناعي الجديد" في الأسواق الناشئة.
هذا الحزام، الممتد عبر أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، يمثل جوهر الثورة الصناعية الخضراء المقبلة، حيث تستثمر الدول ذات الموارد الطبيعية الوفيرة في توليد الطاقة الشمسية وتعزيز الاستدامة الصناعية. وقد أتاحت هذه المقومات، مدعومة بسياسات حكومية تحفيزية وتكلفة إنتاج تنافسية، بيئة مثالية لنشوء قاعدة صناعية جديدة قائمة على الطاقة النظيفة.
وتبرز مصر في التقرير كمساهم رئيسي في هذه الموجة، حيث تستحوذ على نحو 7% من القدرة الإنتاجية العالمية المخطط لها لمصانع الأمونيا الصديقة للبيئة. وهي نسبة تُعادل إنتاجًا كافيًا لتسميد مساحة تُقارب ضعف مساحة البلاد، ما يعزز مكانتها كفاعل محوري في الأمن الغذائي العالمي، خصوصًا في ظل الطلب المتزايد على الأمونيا النظيفة كمكوِّن رئيسي في صناعة الأسمدة.
وتشير الأرقام إلى أن دول الحزام الصناعي الجديد، مثل مصر، أصبحت على أعتاب تجاوز الدول الصناعية التقليدية من حيث عدد المشاريع والنطاق الاستثماري. فقد سجلت أداة تتبع المشاريع العالمية 826 منشأة صناعية نظيفة على مستوى العالم، من بينها 69 مشروعًا دخلت حيز التشغيل، و65 حصلت على التمويل، في حين تم الإعلان عن 692 مشروعًا تنتظر التمويل اللازم.
ومن الملاحظ أن هذه المشاريع تتركز بشكل خاص في قطاعات الأمونيا، ووقود الطيران المستدام، والصناعات الثقيلة مثل الألمنيوم والإسمنت والصلب. ويمثل قطاع الأمونيا النظيفة القاطرة الأهم في إعادة رسم خريطة الصناعة، خاصة مع التوقعات بأن تصل تكلفة إنتاجها في دول مثل مصر إلى نصف نظيرتها في أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة، بفضل توافر الكهرباء منخفضة التكلفة والتكنولوجيا المتطورة.
وفي حين أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن مشاريع تتجاوز قيمتها 450 مليار دولار، يؤكد التقرير أن حصة الدول النامية من المشاريع المعلنة تتجاوز 59% من الإجمالي العالمي، ما يعكس تحولًا حقيقيًا في موازين القوى الصناعية.
ويُنبّه التقرير إلى فجوة ملحوظة بين وتيرة الإعلان عن المشاريع وتقدمها نحو قرارات الاستثمار النهائية، إذ يشير إلى أن تسريع تمويل هذه المشروعات يتطلب مضاعفة الاستثمارات خمس مرات على الأقل، إلى جانب تحركات سياسية وتنظيمية منسقة من الحكومات، تضمن خلق بيئة جاذبة ومستقرة للمستثمرين.
ويُوصي الخبراء بضرورة سنّ سياسات ذكية مثل تسعير الكربون، وتقديم دعم مباشر للمشاريع الناشئة، وتطوير برامج خضراء للمشتريات الحكومية، وهي خطوات يمكن لمصر، في ظل برامجها الوطنية للتحول الأخضر، أن تكون من أوائل الدول القادرة على تبنيها وتفعيلها.
وبينما تشق مصر طريقها ضمن هذا الحراك العالمي، تصبح أكثر قدرة على جذب استثمارات استراتيجية وتقديم نفسها كمركز إقليمي للصناعة النظيفة. فإلى جانب الفوائد البيئية والاقتصادية، يمثل هذا التحول فرصة لتعزيز تنافسية البلاد، وتوفير فرص عمل جديدة، والمساهمة في صياغة مستقبل أكثر استدامة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.