صواريخ رقمية بدل القنابل.. الحرب السيبرانية تعيد رسم خرائط الصراع الإقليمي

في زوايا مظلمة من الفضاء الإلكتروني، تحاك حروب لا تري بعيون البشر، لكن قنابلها الرقمية تفجر أنظمة الدول وتشل أركان القوة، لتتداخل الحدود بين العالمين الرقمي والواقعي، أصبحت الحرب السيبرانية السلاح الأخطر الذي يهدد استقرار الدول ويعيد رسم ملامح الصراعات الجيوسياسية. فلم تعد الحروب تقتصر على الدبابات والصواريخ، بل انتقلت إلى الفضاء الإلكتروني، حيث يمكن لضغطة زر أن تعطل اقتصاد دولة، أو تشل بنيتها التحتية الحيوية في ثوانٍ معدودة.
يكشف خبير تكنولوجي دكتور محمد النواحي، الخبير في الأمن السيبراني، كيف تحولت الحرب السيبرانية إلى سلاح مصيري يتحكم في 50% من صراعات العصر، من هجمات إيران الليلية المدروسة إلى فيديوهات الذكاء الاصطناعي المزيفة التي تحيي الموتى، ومن احتكار أمريكا لرقاقات الحياة إلى معركة "السارايا الإلكترونية" بين طهران وتل أبيب. عالم موازٍ يُعادل خطورته ساحات القتال الدامية.
تخوض إيران وإسرائيل منذ سنوات حربًا سيبرانية خفية وعلنية، توازي في خطورتها المواجهات العسكرية التقليدية، فهذا الصراع يرتبط أساسًا بالملف النووي الإيراني، ومحاولات كل طرف لإضعاف الآخر عبر الهجمات الإلكترونية.
قال دكتور محمد النواحي إن الحرب السيبرانية هي استخدام الهجمات الإلكترونية كأداة لتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية أو اقتصادية، وتستهدف عادة البنية التحتية الحيوية، المؤسسات الحكومية، الشركات الكبرى، وحتى الأفراد.
صراع رقمي يستهدف العواطف:
وأوضح الخبير التكنولوجي أن الهجمات تعكس تحول الحروب التقليدية إلى صراعات رقمية تعتمد على تعطيل البنى التحتية الحيوية، التجسس، والتأثير النفسي على المجتمعات، مع استخدام متزايد للهجمات السيبرانية كأدوات ضغط واستراتيجية في النزاعات الدولية.
شهدت إسرائيل زيادة بنسبة 700% في الهجمات السيبرانية خلال أيام قليلة بعد ضربات عسكرية متبادلة مع إيران، حيث استهدفت الهجمات البنية التحتية الحيوية، المواقع الحكومية، المؤسسات المالية، وشركات الاتصالات، كما تعرضت إسرائيل لهجوم سيبراني واسع استهدف الهواتف النقالة للمواطنين والمسؤولين، بينما أعلنت إيران عن اختراق قنوات تلفزيونية إسرائيلية رسمية.
كشف الدكتور محمد النواحي، الخبير في الأمن السيبراني، أن الحروب المعاصرة باتت تخاض بجناحين متوازيين: ضرب المنشآت المادية، والحرب السيبرانية التي تجتاح الفضاء الإلكتروني. وأوضح أن إيران حولت منظمات من كيانات بشرية إلى هياكل إلكترونية بالكامل، حيث لم يعد التنفيذ يعتمد على أفراد، بل صارت إدارة الهجمات وتحديد الإحداثيات عملية رقمية تعتمد على أجهزة متطورة. وأشار إلى أن اختراق وزارات الدفاع والمالية وأنظمة التشغيل الحيوية صار سلاحًا فتاكًا يعطِّل كيان الدول ويفسد بنيتها التحتية، مؤكداً أن هذا النوع من الحروب يشكل لوحده ما يقارب 50% من أهمية الصراعات الحديثة.
خسائر اقتصادية ضخمة:
بلغت الخسائر السنوية للاقتصاد العالمي بسبب الهجمات السيبرانية نحو 10.5 تريليون دولار في عام 2025، ومن المتوقع أن تصل إلى 24 تريليون دولار بحلول 2027.استهداف قطاعات حيوية تشمل الطاقة، الاتصالات، المصارف، الرعاية الصحية، والنقل، ما يؤدي إلى تعطيل الخدمات وشلل في الحياة اليومية.
ومن أهم الهجمات السيبرانية التي استخدمتها الدول ضد بعضها في أوقات الحروب هجوم "ستاكسنت" عام ٢٠١٠ الذي استهدف المنشآت النووية الإيرانية بواسطة فيروس متقدم لتعطيل أجهزة الطرد المركزي، واشارت مصادر أن إسرائيل والولايات المتحدة كانتا وراءه، وهو من أشهر الأمثلة على استخدام الهجمات السيبرانية كأداة حرب مباشرة.
كما تم استخدام الحرب السيبرانية بين روسيا واوكرانيا منذ عام 2000 وحتى 2020، نفذت روسيا نحو 93% من الهجمات السيبرانية ضد أوكرانيا، شملت هجمات تعطيل، تجسس، استهدفت البنى التحتية الحكومية والعسكرية والخاصة بهدف زعزعة الاستقرار وخلق الفوضى، وتكثفت هذه الهجمات بشكل ملحوظ مع بدء الغزو الروسي في ٢٠٢٢.
وهجمات التجسس والتخريب الروسية على الدول الغربية، شملت تسريبات معلومات لمسؤولين ألمان في 2020، وهجمات على البنية التحتية الحيوية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بهدف جمع معلومات استخباراتية وتعطيل الخدمات الحيوية. وفي عام 2019 شنت الولايات المتحدة هجمات إلكترونية استهدفت قواعد بيانات إيرانية ومراكز تحكم لتعطيل قدرات إيران العسكرية.
إستراتيجيات الليل والذكاء الاصطناعي:
لفت النواحي إلى السر الكامن وراء توقيت الهجمات الإيرانية ليلاً، موضحاً أن الظلام يصعب على الرادارات والأقمار الصناعية رصد مصادر إطلاق الصواريخ بسبب تشتت الإشارات، ما يمنح الضربات دقة تدميرية أكبر، فضلاً عن تأثيرها النفسي المدمر على الشعوب. لكن الأخطر – بحسب تحليله – هو استخدام الذكاء الاصطناعي كسلاح في الحرب النفسية، مشيراً إلى إمكان إحياء شخصيات ماتت رقميًا لبث رسائل مضللة.
رغم المحاولات الإيرانية في شن هجمات سيبرانية مثل استهداف الهواتف الإسرائيلية، يرى النواحي أن طهران "بعيدة جداً" عن منافسة إسرائيل في المجال التكنولوجي رغم تطورها النووي والعسكري. وكشف أن سر التفوق الإسرائيلي يكمن في تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، التي تسيطر على 60-70% من سوق الرقاقات الإلكترونية العالمية الحيوية، التي تشغل كل شيء من الهواتف إلى الصواريخ وأجهزة الراوتر. وأشار إلى أن العقوبات الدولية على استيراد هذه الرقاقات تشكل "المصيبة الكبرى" التي تخنق قدرات إيران ودول مثل الصين، قائلاً: "هذه الرقاقات هي عصب الحياة الحديثة.. لا صاروخ يعمل بدونها".
