رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري

راهب الشعر والنقد

د. محمد السيد إسماعيل .. عاش بهدوء العارفين ورحل بصمت الراضين

بوابة الوفد الإلكترونية

أفنى عمره فى الجهد الثقافى وكان زاهدًا مترفعًا
تنبأ بوفاته بقصيدة على صفحته ومات مبتسمًا 
زوجته: «الحمدلله» آخر كلماته.. ولم يمهله القدر لمناقشة ديوانه الأخير

 

بين شوارع طالما أنهكتها قدماه اكتشافا، سرت..
وفوق أريكةٍ كان عليها يتكئ شاردا فى بيت شعرٍ يراوده، جلستُ. 
ترددت وأنا أخطو خطواتى الأولى نحو بيته، لا أدرى لم انتابنى يقين بأنه سيخرج عليّ مرحبا، وهو الذى كثيرا ما فعلها حين كان يجمعنا لقاء أدبى أو مناقشة عمل ما، بحثت عنه فلم أجده.. لكننى رأيته.. فى عينيها رأيته، بين دموع جاهدتْ كيلا تذرفها، لكنها خانت مقاومتها، رأيته، بين ارتعاشة صوتها وهى تقص على سمعى لحظاته الأخيرة، رأيته.
هنا، بين ذراعيها، شعرت وأنا أضم حزنها بأحضانى، أنه أبدا لم يغب عنها، ولن يغيب.
دفء حديث السيدة، أم كريم، زوجة الناقد الكبير الدكتور محمد السيد إسماعيل، والذى اختطفه الموت من بيننا الثلاثاء الماضى، بل صدق حديثها وحده، كان مؤنسى ودافعى لتجرع ويلات فراقه المرير، والتخفيف من وقع لحظات العزاء وذهولها.
بصوت خفيض ودموع تختنق بين مقلتيها، قالت:
كانت آخر كلماته «الحمدلله»، ثم أسلم الروح ورأسه فوق كتفى، نظرت إليه فكان وجهه مبتسما وضاء، كأن فرحة كبيرة ترتسم أمام عينيه.
مسحت دمعة فاجأت وجنتها، واستكملت:
حزن كبير يعم البلد، كان الجميع يحبونه، جنازته كانت شاهدا على عمق هذا الحب، وعزاؤه أكبر دليل على منزلته فى قلوبهم، ولم لا وهو الذى كان يحب الجميع ببراءة، ويمنح الحب كأنه كل ثروته.
وأحب الشعر والنقد، أخلص لهما كأنهما ولداه، منحهما جل وقته ومجهوده وأمله، سألته يوما: ما الذى يمنحك الأدب مقابلا لكل هذا المجهود والاهتمام؟ فكان يقول بتلقائية محب: الكثير جدا، إنه يمنحنى المتعة والقدرة على الحياة وتحمل العالم، إنه الشغف الذى يدفعنى للمواصلة، شغف لا ينتهى أبدا. 
وعن آخر آماله، قالت إنه تمنى لو فرح بزواج ابنه أمير.
لفت ناظرى تهدج صوتها وأنا أحكى لزوجته عن آخر ديوان له، شرفت بأننى نشرته فى دار النشر الخاصة بى. 
«استشراف إقامة ماضية»، فتحولت إليها بكليتى، وأنا ألمح دموعا تصارع عينيها، اللتين تسألانى دون صوت أن أواصل حكايتى عنه، وجدتنى أنظر إلى شقيقته الصغرى وأستكمل ذكرياتى معه، أخرجت صورنا معا، والتى جمعتنا إحداها فى ندوة والأخرى بمعرض الكتاب الأخير، وكانت المرة الأخيرة التى أراه فيها، لتنظر إليها بشوق المحب فلا تستطيع السيطرة على دموعها، وتغادرنى رغما عنها، فتلتقط منى زوجته الهاتف وتقبل صورته باكية.
كنت أنتظره لمناقشة ديوان له بعد خمسة أيام فقط، رحت أرتب أنا وأعضاء شعبة النقد باتحاد الكتاب لتفاصيل تلك الندوة، خمسة أيام فقط يا دكتور محمد، فلماذا لم تنتظر وقد كنت تترقب تلك الندوة وكأنها أهم ندواتك؟ لماذا لم تنتظر؟
وحده القدر الذى جمعنى بـ«آخر» ما يخصك، أن يطبع آخر ديوان لك على يدى، وأن أشهد ترتيبات آخر مناقشة لك لم يمهلنا القدر لنتمها.. ربما أراد هذا القدر أن يجعلنى أحمل «آخر» مسببات فرحك، فأشعر ببعض امتنان له أن خصنى بتلك النعمة. 
نبيلا كريما، مترفعا عما يسعى خلفه أقرانه، محبا للأدب والنقد، مخلصا لهما.. هكذا كان وبهكذا اشتهر، بتواضع العظماء كان يمشى بيننا، وبعطاء من لديه الكثير كان يسعى لإبراز العمل الجيد، ويتحدث عنه، لا ينتظر أن يُطلب منه، بل كان هو من يفعل بمجرد أن يعجبه نص مبدع، لذا أحبه الشباب والأصدقاء، واعتادوا فرحته واحتفاءه الخاص بما يستحق من أعمالهم.
أذكر أنه فى ذروة صدور مجموعتى القصصية الأخيرة «سرير فارغ»، أن قابلته فى إحدى الندوات فطلب منى قراءتها، وعندما نسيت إهداءه نسخة عاتبنى قائلا إن «كتابتى» تعجبه، ويرى فى نفسه رغبة أن يقرأ المجموعة ليكتب عنها بل ويناقشها فى إحدى الندوات، لكننى حظيت بتقديمه لندوة مناقشة المجموعة فى منتدى الشعر المصرى.
ذات ندوة نقدية لم يسع الفرح قلبى، حين جلست إلى جواره كناقدة أتلمس خطواتى الأولى فوق بلاط النقد، ورحت أطرح رؤيتى النقدية فى أحد الدواوين، فأعجبه طرحى كثيرا وأثنى عليه، هنا فقط شعرت بحصولى على بطاقة اعتمادى ناقدة.
هكذا كان سمت محمد السيد إسماعيل.. معطاء حد السماء.
رحت أقرأ كلمات الأصدقاء والمقربين المصدومة بخبر رحيله جسدا، وهى تؤكد على نبله وعطائه هذا، فها هو الكاتب أسامة حداد يقول:
«كان د. محمد السيد إسماعيل متواضعا ونبيلا يرى فى تلبية الدعوة للمشاركة فى مناقشة كتاب واجبًا لا ينبغى التخلى عنه ويتابع أعمال الجميع بمحبة وبساطة واجتهاد العالم دون السعى للتربح من علاقاته القوية داخل الوسط الثقافى، هو من كان القاسم المشترك فى الكثير من الفاعليات الثقافية فلم ينل تكريما يستحقه أو جائزة ذهبت إلى آخرين، هو من اصطفى المهمشين ليكون واحدا منهم منذ ديوانه الأول «كائنات فى انتظار البعث»، هو حالة صوفية يشبه نصوصه وفلاح مصرى لا يعرف سوى المحبة الخالصة واليد البيضاء الممتدة للجميع». 
وها هو الدكتور عمار على حسن، يؤكد ذلك بقوله:
ااااااااه يا محمد، أين نجد من هو فى عطائك ومحبتك للجميع؟ كان يُشعرك أنه منذور للقراءة والكتابة، لكنها لا تتكرر وحدها، إنما مثلها، وربما ما هو أجل منها، هى تلك الدهشة الطفولية التى لا تغادر عينيه ومحيا ريفى جاء يسعى فى زحام مدينة متوحشة، وكان يأبى إلا أن يترك بصمته فى الثقافة المصرية المعاصرة، كواحد من المخلصين لها، والعاملين لأجلها، والصبورين على جهدها المفرط، وعطائها القليل.
فيما يصفه الدكتور محمد عبدالباسط عيد، قائلا:
مات محمد إسماعيل عن ثلاثة وستين عاما، مات بقلب أخضر، يشبه قلوب الأطفال، ولا أعلم كيف رعى هذا القلب كل هذه السنين، وعبر به من تخوم الفقر وقسوة التنمر وخيبة الأمل.. رجل لا يستند على أى شىء تقريبا، كل ما لديه شوية أفكار عن العدالة الاجتماعية ومحبة للشعر والفن عموما. لا يهتم إسماعيل بما يهتم به كثير من الناس: لا شقة، ولا عربية، ولا ملابس ولا أى شىء، كان زاهدا أصيلا يرضى بأقل الأشياء كأنه ولد بهذه الصفة، ولعل هذا ما جعل نقادا ينتبهون إلى نزعته الصوفية المترفعة.. وكنت أعابثه قائلا: يصبح اليسارى صوفيا رغم أنفه (يا مولانا).
أعطى إسماعيل الثقافة عمره كله، ولم يأخذ منها أى شىء، ولم يطالب بأى شىء، لا ندوة، ولا مؤتمر، ولا لجنة، ولا حتى جائزة.. أشهد الله أن هذا الرجل ناضل فى هذه التفاصيل نضالا لا مثيل له، وأنه قد أقبل على ربه بقلب أخضر كقلوب الأطفال: بلا غل، ولا حسد، ولا لوم ولا عتاب.. جاء سمحا، وغادر سمحا».
بينما يقول د. محمد عليم، صديق عمره:
صديق الدراسة والرحلة الدكتور محمد السيد إسماعيل قال كلماته ثم مضى بهدوء يشبه روحه.
محمد لم يشبه أحدا إلا نفسه، ولم يقل كلمة من خارج قلبه، ولم يتاجر بشكواه، وتحمل آلامه فى شموخ حسدناه عليه، عاش ومات بفلسفة فلاح مصرى جسور، وغادرنا مبتسما راضيا رغم ركام الرفض.. وداعا أيها الشامخ الكبير».
وتلك كلمات د. هدى عطية، فهى تقول:
وداعًا، صاحب «اليد البيضاء فى آخر الوقت».
لم نكن نظن أن «آخر الوقت» سيأتى بهذه السرعة، ولا أن اليد البيضاء ستلوّح لنا من ضفة الغياب قبل أن نتفيّأ ظلال ديوانك، ونسمع نبض كلماتك على منبر اتحاد الكتّاب، حيث اتفقنا، وتواعدنا، وابتسمنا، كأننا نمتلك الوقت.. اليوم، رحل الشاعر، وترك القصيدة وحدها تواجه العالم.
اليوم مات الدكتور محمد السيد إسماعيل، ومات معه شىء من الدفء، من الأمل، من الشعر الذى كان يعرف طريقه إلى القلب بلا استئذان.
«يا صديقى، لم تكن مجرد شاعر ولا مجرد ناقد، كنت نسيجًا من الحنان والمعرفة، وكانت كلماتك تسعف الروح فى زمن القسوة، وتحرس المعنى من الضياع».
فيما اختار د. مسعود شومان، صديقه الأقرب، من الكلمات أقلها، وكأن حزنه تعجز عنه الكلمات:
«إلى جنة الخلد يا حبيبى، د. محمد السيد إسماعيل سافر فى رحمة الله، رحمات الله ورضوانه، سأبكيك كثيرا يا أجمل الأصدقاء وأطيبهم». 
رفعت عينى عن نعى الأصدقاء، إلى منشور أخير له، كان يتمنى للأديب صنع الله إبراهيم تمام الشفاء، ابتسمت بمرارة من أفاعيل القدر، ورغما عنى تذكرت تلك الكلمات من قصيدة له، كانت آخر ما كتب من شعر على صفحته بالفيسبوك، وكأنه ولى، تنبأ برحيله قبل أن يحين الموعد بأحد عشر يوما:
«باب واسع للعبور»
فى الصباح أبحث عن البيت/ وفى الليل أنام على كومة من الأجسام والحجارة/ آه يا أمي/ لقد كان هنا/ منذ عشرين شهرا/ أرسم فوق جدرانه/ عيونا كثيرة/ وأيادى بيضاء/لا بيت الآن/ لكن تأكدي/أن المكان كله أصبح بابا واسعا للعبور».
نعم، اخترت أوسع الأبواب للعبور من دنيانا، أبواب قلوبنا المشرعة على حبك وسيرتك العطرة، عشت بيننا بهدوء العارفين، وعبرت كطيف لم يتحمل عواصف القبح والزيف، فرحلت بصمت الأولياء وابتسام الراضين..
فالسلام عليك.. كل السلام. 

* بروفايل:

د. محمد السيد إسماعيل، شاعر وناقد ولد عام 1962 بقرية طحانوب بمحافظة القليوبية. تخرج فى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1985، وحصل منها على الماجستير والدكتوراه فى الدراسات الأدبية.
بدأ كتابة الشعر عام 1977، وعمل مدرسا للغة العربية، ونشرت قصائده ودراساته النقدية فى مجلات مصرية وعربية، وشارك فى مهرجانات شعرية متعددة.
صدر له عدد من الدواوين منها: كائنان فى انتظار البعث، الكلام الذى يقترب، استشراف إقامة ماضية، تدريبات يومية، قيامة الماء، اليد البيضاء فى آخر الوقت، أكثر من متاهة لكائن وحيد.
ومن أعماله المسرحية: السفينة، زيارة ابن حزم الأخيرة، وجوه التوحيدى، رقصة الحياة.
وأصدر كتبًا نقدية منها: رؤية التشكيل، الحداثة الشعرية فى مصر، غواية السرد، نقد الفكر السلفى، انفتاح النص الشعرى، دلالات المكان السردى. 
نال العديد من الجوائز، منها جائزة الشارقة للإبداع العربى، وجائزة مجمع اللغة العربية فى النقد، إلى جانب جوائز فى النقد والشعر من هيئة قصور الثقافة وصندوق التنمية الثقافية.
كُرم كأفضل ناقد أدبى فى مؤتمر أدباء مصر، واختير شاعرا فى معجم البابطين، وتولى أمانة مؤتمر القاهرة الكبرى وشمال الصعيد الثقافى.