كيف تؤثر الحرب التجارية على أسعار الذهب؟

الذهب لم يكن في يوم من الأيام مجرد معدن ثمين، بل هو مرآة لحالة الاقتصاد العالمي، وملاذ آمن في أوقات الأزمات. في ظل التقلبات الاقتصادية والسياسية التي يشهدها العالم، وخاصة في فترات النزاعات التجارية بين الدول الكبرى، يلجأ المستثمرون إلى الذهب كوسيلة لحفظ القيمة وتفادي الخسائر. في هذا المقال، سنستعرض بالتفصيل كيف تؤثر الحرب التجارية على أسعار الذهب، ولماذا يعتبر الذهب "الملجأ الأخير" عندما تشتد العواصف الاقتصادية.
أولًا: ما المقصود بالحرب التجارية؟
الحرب التجارية هي نوع من النزاع الاقتصادي بين دولتين أو أكثر، حيث تلجأ الحكومات إلى فرض رسوم جمركية أو قيود تجارية على السلع والخدمات المتبادلة فيما بينها. وتحدث هذه الحرب غالبًا بهدف حماية الصناعات المحلية أو ممارسة ضغوط سياسية.
من أبرز الحروب التجارية المعاصرة، الحرب بين الولايات المتحدة والصين التي بدأت في عام 2018، والتي أدت إلى فرض مئات المليارات من الدولارات كرسوم جمركية متبادلة، وأثرت على سلاسل التوريد العالمية وحركة التجارة والاستثمار.
ثانيًا: الذهب كأصل استثماري فريد
يُعرف الذهب منذ قرون بأنه أصل آمن يحافظ على قيمته في أوقات الأزمات. فبينما تتقلب أسعار الأسهم والعملات بفعل الأحداث الجيوسياسية، يحتفظ الذهب بجاذبيته لدى المستثمرين، نظرًا لندرته، واستقلاله عن الأداء الاقتصادي لأي دولة معينة.
وعندما تبدأ الأسواق بالاضطراب نتيجة لحروب تجارية أو توترات سياسية، يتاثر سعر الذهب مباشر باعتباره ملاذًا آمنًا، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعاره.
ثالثًا: كيف تؤثر الحرب التجارية على أسعار الذهب؟
1. زيادة الطلب على الملاذات الآمنة
في أوقات النزاعات التجارية، تتراجع شهية المخاطرة لدى المستثمرين، ما يدفعهم للتخلي عن الأصول الخطرة مثل الأسهم والعملات الرقمية، والتوجه نحو الذهب.
وكلما زادت حالة عدم اليقين، زاد الإقبال على الذهب، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعاره.
على سبيل المثال، خلال تصاعد الحرب التجارية بين أمريكا والصين في عام 2019، تجاوز سعر الذهب 1500 دولار للأوقية لأول مرة منذ 6 سنوات.
2. ضعف أداء العملات وتأثير الدولار
الذهب يُسعّر عالميًا بالدولار الأمريكي، وأي ضعف في الدولار يزيد من جاذبية الذهب للمستثمرين خارج الولايات المتحدة.
الحرب التجارية قد تؤدي إلى تقلبات في أسعار الصرف، وإذا أثرت سلبًا على الاقتصاد الأمريكي، قد يُجبر الاحتياطي الفيدرالي على خفض أسعار الفائدة، مما يضعف الدولار ويرفع أسعار الذهب.
في المقابل، إذا ساهمت الحرب التجارية في تقوية الدولار كمخزن للقيمة، فقد تتراجع أسعار الذهب مؤقتًا، لكن ذلك لا يلغي الاتجاه الصاعد طويل الأمد في حالات التوتر.
3. مخاوف الركود العالمي
أحد الآثار غير المباشرة للحروب التجارية هو تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، حيث تؤثر الرسوم الجمركية المتبادلة على الصادرات، وتُضعف سلاسل الإمداد، وتؤدي إلى انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي.
عندما تزداد مخاوف الركود، يهرع المستثمرون إلى الذهب باعتباره الحامي من تدهور الأصول الأخرى، مما يدفع بأسعاره إلى الارتفاع.
4. سياسات البنوك المركزية
أثناء الحروب التجارية، تتدخل البنوك المركزية لدعم اقتصاداتها من خلال خفض أسعار الفائدة أو ضخ السيولة.
هذه السياسات تؤدي غالبًا إلى خفض العوائد على الأصول الأخرى (مثل السندات)، مما يجعل الذهب خيارًا أكثر جاذبية، كونه لا يمنح عوائد لكنه يحتفظ بالقيمة.
كما أن بعض البنوك المركزية، وخصوصًا في الاقتصادات الصاعدة مثل الصين وروسيا، تقوم بزيادة احتياطاتها من الذهب كنوع من تنويع المخاطر بعيدًا عن الدولار، في حال نشوب نزاعات تجارية طويلة الأمد.
رابعًا: تحليل سلوك الذهب خلال الحرب التجارية الأمريكية الصينية
في الفترة من 2018 إلى 2020، وفي خضم تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين:
- ارتفع سعر الذهب من حوالي 1250 دولارًا للأوقية إلى أكثر من 1600 دولار.
- سجل الذهب أعلى مستوياته في عدة سنوات كلما صدر قرار جديد بفرض رسوم جمركية أو تعطلت المفاوضات التجارية.
- استغل المضاربون هذه الأحداث لتحقيق مكاسب سريعة من خلال شراء الذهب وقت الأزمات وبيعه عند الاستقرار النسبي.
هذا يُظهر كيف يمكن للذهب أن يستفيد بشكل مباشر من حالة الاضطراب وعدم اليقين التي تخلقها الحروب التجارية.
خامسًا: هل التأثير دائم أم مؤقت؟
يُمكن أن يكون تأثير الحرب التجارية على الذهب مؤقتًا إذا تم التوصل إلى اتفاقيات تجارية أو هدنة بين الأطراف المتنازعة.
ولكن إذا استمرت التوترات لفترة طويلة، فقد يُصبح التأثير مستدامًا، خصوصًا إذا ارتبط بتغيرات في السياسات النقدية العالمية، أو بنزاعات جيوسياسية أوسع.
وبالتالي، الذهب قد يشهد تصحيحات قصيرة الأجل، لكنه يظل يحتفظ بجاذبيته على المدى الطويل كملاذ آمن.
سادسًا: عوامل أخرى تساهم في تعظيم أثر الحرب التجارية على الذهب
- الاضطرابات في أسواق الأسهم العالمية نتيجة الحرب.
- المشاعر السلبية في وسائل الإعلام والتقارير الاقتصادية.
- تزايد العجز التجاري أو المديونية في الدول المتأثرة.
- الإقبال على صناديق المؤشرات المتداولة المرتبطة بالذهب (ETFs).
كل هذه العوامل تُضخم تأثير الحرب التجارية على تحركات أسعار الذهب.
الحرب التجارية ليست مجرد نزاع اقتصادي، بل هي زلزال اقتصادي وجيوسياسي ينعكس على كافة الأصول، وعلى رأسها الذهب. فمع كل تصعيد في الحرب، ترتفع مخاوف الركود، ويتحول المستثمرون نحو الذهب كملاذ آمن. ومع كل هدنة أو انفراجة، قد يهدأ السوق مؤقتًا، لكن الذهب يبقى أداة استراتيجية للتحوط ضد المجهول.
في ظل عالم غير مستقر ومتعدد الأقطاب، تبقى أسعار الذهب حساسة جدًا لأي إشارات على تصعيد في النزاعات التجارية، مما يجعل مراقبة هذه الأحداث ضرورة لأي مستثمر أو محلل اقتصادي.