أشغال شاقة بلا مقابل
عمـال النظـافة والمحـاجر فى قبضة السماسرة

في قلب القاهرة، تحت أشعة الشمس الحارقة، وبين أزقة المحاجر وطرقات المدينة المزدحمة، يقف الآلاف من العمال، مشحونين بالإرادة ولكن محاصرين بالظروف. هؤلاء الذين يعانون يومياً في سبيل لقمة العيش، هم صورة حية للكدح والصبر، ومع ذلك، يواجهون حياة من التهميش، يتجرعون الفقر، ويعيشون تحت ضغط الديون والأمل الضئيل في التغيير. لا تأمين صحي يحميهم من المخاطر، ولا أجر يكفي لتلبية احتياجاتهم الأساسية، ولا ضمانات تضمن لهم مستقبلاً أفضل. هم العمود الفقري للمدينة، لكنهم في نظر الكثيرين مجرد أرقام تُستغل ولا تُقدّر. ومع كل خطوة يخطونها نحو العمل، تتزايد تحدياتهم وتغيب أبسط حقوقهم. هذه هي معاناة أبطال الحياة اليومية الذين يستحقون أن يُسمع صوتهم وتُعاد لهم كرامتهم.
في الجولة الميدانية التي قام بها محرر "الوفد" لسماع صرخات عمال اليومية ورصد حياتهم الشاقة، تمكنا من ملاحظة العديد من المعاناة والآلام التي يعانون منها، بالإضافة إلى مطالبهم التي تحتاج إلى اهتمام من المسؤولين الحكوميين لتنفيذها، لضمان حياة كريمة لهم.
إيهاب الشرشابي: عمال النظافة أبطال تهدر حقوقهم وسط صمت لا يغتفر
قال اللواء إيهاب الشرشابي رئيس الهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة السابق، أن عمال النظافة هم خط الدفاع الأول عن صحة المجتمع وسلامة بيئته، ومع ذلك يتركون في مواجهة الظلم والقهر، بين تأخير الرواتب وضعف الأجور التي لا تكفي معيشة فرد واحد على مدار الشهر، في مشهد يفتقر إلى أبسط قواعد الإنسانية والعدالة الوظيفية، وطرح سؤال "كيف يمكن لمجتمع أن ينمو ويتقدم بينما تهدر حقوق من يحافظون على صورته؟
وأضاف الشرشابي، كنت أحرص شخصياً، أثناء رئاستي لهيئة النظافة، على النزول إلى كافة الفروع بنفسي، ليس استعراضاً، بل التزاماً بمسؤولية لا تقبل التهاون، كنت أستمع إلى العامل البسيط مباشرة، أتعرف على معاناته، وأتخذ قرارات فورية لحل مشكلاته، لأن صوت هذا العامل أمانة في عنق كل مسؤول شريف، وكنت أتصدى بكل حزم لكل من تجرأ على استغلال هؤلاء العمال أو سرقة حقوقهم.
ووجه رئيس الهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة السابق، رسالة واضحة: "عمال النظافة ليسوا مجرد أرقام في كشوف الرواتب، بل هم أبطال نعيش على جهودهم، من يتهاون في حقوقهم أو يتأخر عن إنصافهم، لا يستحق مكانه كمسؤول، حان الوقت لنضع حداً لهذا الاستغلال الممنهج، ونرد لهؤلاء العمال الجميل الذي يستحقونه".
الحياة شاقة والآمال ضائعة
قال أحمد ابو عامر، أحد عمال المحاجر، بنبرة حزينة "أنا في الخمسين من عمري، وأعمل في المحجر منذ أكثر من عشرين سنة، رغم أنني تقدمت في السن وأصبحت قوتي قليلة، لكن ما عنديش خيار ثاني، لازم أستمر في العمل عشان أقدر أعيش وأوفر لقمة عيشي"، أحمد يروي معاناته اليومية، حيث يحصل على 100 جنيه فقط في اليوم، وهو أجر لا يكفي حتى لتلبية احتياجاته الأساسية، "بعد خصم المواصلات وشراء بعض الطعام، ما بيبقاش فيه حاجة تكفي غير أني أعيش كل يوم على أمل، وده بيخلي الحياة صعبة جداً".
وأضاف أحمد، "يومنا يبدأ الساعة 6 الصبح، نشتغل طول اليوم في المحجر تحت الشمس الحارقة، نكسر في الصخور والأحجار، وكل ده عشان نقدر نجيب فلوس نعيش بيها، وخصوصًا إننا مفيش تأمين صحي، لو أصبت في الشغل، مفيش حد هيدفعلي أو يهتم بيا"، وعندما يسأله أحدهم عن وضعه في العمل، يجيب قائلاً: "ده شغل صعب، وكنت أتمنى أكون لقيت حل، لكن خلاص أصبحنا نعيش بهذه الطريقة، وما عنديش غير أمل ضعيف أن الوضع يتحسن".
وعن حياته اليومية، قال أحمد: "كل يوم بعد ما نخلص شغل، بنروح نشتري فول وطعمية عشان نقدر نأكل، وما فيش غيرهم لأن ده اللي بنقدر عليه، مش قادرين نشتري حاجة تانية، وكل واحد فينا عنده أسرة وأطفال، لكن في النهاية بنعيش على الفتات"، وأضاف: "أنت لما تبقى في العمر ده، مش هتقدر تشتغل في حاجة تانية، وإذا تسريحت من المحجر، إزاي هعيش؟ أنا مش لاقي فرصة تانية ولا عندي مصدر رزق غير ده"، قائلاً "احنا مش طالبين الكثير، بس نحتاج حياة كريمة، نحتاج تأمينات صحية وضمانات للعمال، شوية أمل كده، مش عايزين غير الحقوق اللي حقناها على مدار السنين".
عقود الاستعانة تعرضنا للخطر والقلق المستمر
يعيش موظفو عقود الاستعانة في حالة من الخوف المستمر بسبب الأوضاع الصعبة التي يواجهونها في عملهم اليومي، مما يعرض حياتهم للخطر بشكل دائم، ظروف العمل غير الآمنة التي تتمثل في قلة التأمينات الاجتماعية والصحية، والتجديد السنوي للعقود، تجعلهم عرضة للطرد في أي لحظة، خاصة في ظل عملهم في بيئات غير مؤمنة تؤثر على صحتهم وسلامتهم، من الضروري أن تتخذ الهيئة خطوات عاجلة لتوفير بيئة عمل آمنة تضمن حقوق هؤلاء الموظفين، سواء من حيث التأمين الصحي أو الاجتماعي، او توفير رواتب تتواكب مع تغيرات الأسعار التي تحدث في الأسواق، وكذلك ضمان استقرار وظائفهم بما يتيح لهم عيش حياة كريمة دون خوف من فقدان مصدر رزقهم الوحيد.
بنبرة حزينة قال أ.ع، موظف بهيئة النظافة، أنه موقع عقد استعانة، "نعيش في حالة من القلق المستمر، لا نعلم ماذا سيحدث في العقد القادم او الايام القادمة، لا يوجد ضمانات بالنسبة لنا كمجموعة من الموظفين بعقود استعانة، وقد أمضينا سنوات طويلة في العمل في الهيئة، لكن ما زلنا نواجه ظروفا قاسية، " أنا شخصيًا حاصل على بكالوريوس تجارة، وأعمل في الأعمال الإدارية، ورغم ذلك فإن الراتب الذي أتقاضاه بعد الخصومات لا يتجاوز 2634 جنيهًا فقط.
وأضاف أ.ع، أن المشكلة ليست فقط في الراتب المنخفض، بل في أن العقود تتجدد كل 11 شهرًا، وهذا يجعلنا في حالة خوف دائم من التسريح، سمعنا أن التجديد القادم قد يتضمن تسريح جميع العقود المؤقتة، وهذا يعني أننا أمام مستقبل غير واضح، رغم ضعف الرواتب، ونحن نعمل في الهيئة منذ أكثر من خمس سنوات، لكننا نعامل كأننا مجرد أدوات قابلة للاستبدال في أي لحظة.
وأوضح أ.ع، نحن لا نطالب بالكثير، فقط حقوقنا الأساسية، رغم أنني أعمل منذ سنوات، لا نحصل على أي ضمانات اجتماعية أو تأمين صحي إلا بالتجديد الشخصي كل 11 شهر، وفي الفترة الحالية لم يتم تاميني علي صحتي، إذا أصبنا أثناء العمل، لا يوجد أي تعويض أو رعاية صحية، وهذا يعرضنا لمخاطر كبيرة، خاصة وأننا نعمل في بيئة غير آمنة، حيث نقوم بأعمال إدارية وفنية في أماكن متعددة، بعض الزملاء تعرضوا لحوادث مميتة مؤخرًا أثناء العمل، ورغم ذلك لا نجد أي دعم من الهيئة.
استغلال يومي وأجور لا تكفي للحياة
كشف "ع.م"، مشرف نظافة في هيئة النظافة والتجميل بالقاهرة، عن أوضاع مأساوية يعيشها عمال النظافة بسبب استغلال موردي العمالة الذين يجلبونهم من المحافظات البعيدة للعمل في القاهرة، موضحاً أن الشركات المسؤولة عن جمع العمال من خلال الموردين تحصل على مبلغ 185 جنيهًا تقرياً يوميًا مقابل كل عامل، بينما لا يتجاوز ما يحصل عليه العامل نفسه 40 جنيهًا يوميًا، ويزيد هذا المبلغ قليلًا ليصل إلى 50 جنيهًا فقط للعامل الأكثر كفاءة او معرفة شخصية.
وأضاف "ع.م"، أن العمال يتم نقلهم يوميًا عبر حافلات خاصة بسماسرة العمال من المحافظات النائية للعمل في مناطق مثل طرة والبساتين والمعادى، في ظروف قاسية وغير إنسانية، وأشار إلى أن الأجر الشهري للعامل حاليًا يبلغ حوالي 1200 جنيه فقط إذا حصل العامل علي 40 جنيه، بدون أي إجازات على مدار الشهر، مما يجعلهم غير قادرين على توفير أدنى متطلبات الحياة.
وأوضح "ع.م" أن عمال النظافة يواجهون استغلالًا شديدًا من قبل سماسرة العمالة الذين يجنون أرباحًا كبيرة على حساب العمال، حيث يتقاضون مبالغ كبيرة من الشركات بينما يبقى العامل تحت رحمة أجر يومي زهيد لا يكفي لتغطية احتياجاته الأساسية، مؤكداً، أن الظروف الحالية تدفع العمال إلى القبول بأي أجر مهما كان ضئيلًا، خوفًا من فقدان مصدر رزقهم الوحيد، وأضاف أن الوضع يزداد صعوبة مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية من الغذاء، مما يجعل الحياة شبه مستحيلة بالنسبة لهم.
وطالب المشرف، المسؤولين بضرورة التدخل الفوري لإعادة هيكلة أجور عمال النظافة وتحسين أوضاعهم المعيشية، ودعا إلى وضع حد لاستغلال الموردين والسماسرة وفرض رقابة مشددة على الشركات التي تعمل في هذا المجال، لضمان حصول العمال على حقوقهم المشروعة والقانونية، وأكد أهمية منح العمال إجازات مدفوعة الأجر لتحسين ظروفهم النفسية والاجتماعية، مشيرًا إلى أن استمرارهم في العمل تحت هذه الظروف القاسية يؤثر سلبًا على كفاءتهم وإنتاجيتهم، وشدد على ضرورة توفير سكن لائق للعمال الذين يأتون من محافظات بعيدة، بدلًا من تركهم يواجهون معاناة التنقل اليومي لمسافات طويلة.
وأضاف ع.م، أن تحسين أوضاع عمال النظافة لا يصب فقط في مصلحة العمال أنفسهم، بل ينعكس إيجابيًا على المجتمع بأسره، حيث يؤدي إلى رفع مستوى النظافة في الشوارع والأحياء، ويعزز من الصورة الحضارية للمدينة، مناشداً الجهات المعنية بضرورة التحرك السريع لحل هذه الأزمة، مؤكدًا أن عمال النظافة هم العمود الفقري للحفاظ على مظهر المدينة، ويستحقون حياة كريمة تكافئ جهودهم وتضحياتهم اليومية.
معاناة يومية وغياب للحقوق
اشتكي"ط.ا"، عامل نظافة بالمنطقة الجنوبية بالقاهرة، عن معاناة مريرة يعيشها هو وزملاؤه بسبب الظروف غير الإنسانية التي يتعرضون لها في عملهم في تنظيف شوارع القاهرة، وأوضح أنه لم يتقاض راتبه من شركة توريد العمالة منذ شهر أكتوبر 2024 وحتى شهر يناير 2025 ، مضيفًا أن اليومية تحسب لهم بمبلغ 70 جنيهًا فقط مقابل العمل من الساعة السابعة صباحًا وحتى الثالثة عصرًا، دون توفير بدل انتقالات، قائلاً "أن طبيعة العمل تعرضهم لمخاطر كبيرة، حيث يعملون في الشوارع الرئيسية وعلى المحاور السريعة، مشيرًا إلى أن العديد من زملائه تعرضوا لحوادث مميتة في الفترة الأخيرة، ورغم تلك المخاطر، يظل جميع العمال بلا تأمينات اجتماعية، مما يجعلهم بدون أي حماية في حال تعرضهم لأي إصابة أثناء العمل.
وأشار "ط.ا" إلى أن سماسرة العمال يتعاملون معهم بطريقة مهينة وغير مفهومة، قائلاً: "على سبيل المثال، إذا طالب أحد العمال براتبه أو الذهاب إلي هيئة النظافة لعرض شكوى، يتم تسريحه فوراً، وكأننا مجرد أدوات قابلة للاستبدال"، وأضاف بحسرة: "أنا لدي خمسة أطفال وزوجة، من أين أُطعمهم وأوفر لهم احتياجاتهم؟ أعيش على مساعدات أهل الخير، وأضطر للتسول الطعام من المارة والسيارات، أما زوجتي، فتقوم بكتابة طلبات إعانة في المساجد على أمل أن نحصل على بعض المساعدات مثل الملابس أو الأرز أو الزيت.
وأوضح"ط.ا" "أن العمال يخشون الحديث أو الاعتراض على سلوك السماسرة خوفًا من الفصل التعسفي، والعديد من زملائه اضطروا لترك منازلهم بسبب عجزهم عن دفع الإيجار، قائلاً: "كيف يمكننا دفع ألف جنيه إيجار اوضه علي السطح في ظل هذه الظروف؟ تكاليف الحياة أصبحت باهظة، والمواصلات وحدها تستهلك 40 جنيهًا يوميًا، وأنا أعيش في التبين، إذا لم أحصل على أي مساعدة أو إحسان، أضطر للنوم في الشارع لأني لا أملك المال للعودة إلى أطفالي وزوجني".
وأضاف "ط.ا" أن راتبه الشهري يبلغ 2100 جنيه فقط، دون أي إجازات أسبوعية، بينما تصل تكلفة المواصلات الشهرية إلى 1200 جنيه، قائلاً: "كيف يمكنني أن أُطعم سبعة أفراد وأغطي احتياجاتهم بألف جنيه فقط في الشهر؟ نعيش في ظروف قاسية، ونلجأ إلى أهل الخير لتوفير الطعام والاحتياجات الأساسية".
وأشار "ط.ا" إلى أن السماسرة يؤجلون صرف الرواتب بشكل مستمر، مما يضع العمال في مأزق حقيقي، قائلاَ: "العمال الذين يتعرضون للإصابة أثناء العمل لا يحصلون على أي تعويض أو رعاية، وأحيانًا يجبرون على ترك العمل تمامًا"، وأكد أن الأوضاع الحالية لا تليق بكرامة الإنسان، مطالبًا بتحسين أوضاع عمال النظافة وضمان حصولهم على حقوقهم الأساسية والمالية.
وطالب "ط.ا" عامل النظافة بالمنطقة الجنوبية "نريد أن نعيش حياة كريمة تليق بإنسانيتنا، نحن نعمل بجد ونضحي بصحتنا، ولكننا لا نحصل حتى على الحد الأدنى من حقوقنا، على المسؤولين أن يتحركوا فورًا لإنقاذنا من هذه المعاناة المستمرة وتوفير تأمين اجتماعي وصحي شامل لعمال النظافة، يضمن حمايتهم من المخاطر التي يتعرضون لها يوميًا أثناء العمل، بالإضافة إلى إعادة هيكلة الأجور لتتناسب مع ارتفاع تكاليف المعيشة، بما يكفل لهم حياة كريمة ويعزز من قدرتهم على الاستمرار في أداء دورهم الحيوي بكفاءة ودون معاناة".


