(نحو المستقبل)
هيجل من الفلاسفة القلائل الذين شغلوا العالم منذ نهايات القرن الثامن عشر حتى الآن بفلسفة مثالية غامضة مليئة بالمصطلحات والآراء المثيرة للجدل، لكن بعيداً عن كل ذلك كانت شذرته الاستثنائية عن الحب التى كتبها فى أواخر عام 1797 م وعرض لها د. محمود رجب، رحمه الله، فى كتابه الاستثنائى أيضاً عن «الاغتراب»، حيث كان اهتمام هيجل فى هذه الشذرة موجهاً نحو تحقيق وحدة حقيقية بين الأفراد بعضهم وبعض من ناحية، وبين الفرد والعالم من ناحية أخرى، حيث كان يرى أن هذه الوحدة بين الأفراد لن تتحقق إلا من خلال الحب الذى وصفه بأنه شعور «بالواحدية» أى أن الاثنين– المحب والمحبوب – يصيران واحداً!
وفى هذا الإطار ينتقد هيجل صور الحب الأخرى، وخاصة ذلك النوع الآخر من الحب الأنانى الذى يقوم على إقامة علاقة مع الآخر بغرض المنفعة الشخصية وأطلق عليه «الحب مدفوعاً بما هو ميت» ويقصد به الحب الذى تدفعه وتستثيره موضوعات أو أشياء مادية تتيح للمرء الذى يمارسه إشباع رغبته فى السيطرة والسيادة والامتلاك! ويرى هيجل أن المحب الذى ينظر إلى محبوبه على أنه صاحب فكر لا بد أن يشعر بأن فرديته تقف حجر عثرة فى طريق اتحاد حياتهما وهى فردية تتمثل فى ارتباطه بأشياء ميتة يمتلكها الآخر.. وأن كل محب ينظر إلى محبوبه على أنه آخر «غيره» وصاحب «ملكية»، فإن هذه الغيرية والآخرية وهذه الملكية تحول دون اتحادهما! ويعتبر هيجل أن هذا الحب يمثل نوعاً من الاغتراب الذى لن يتم تجاوزه إلا باستشعار الحياة وما فيها من وحدة، ولا يكون ذلك إلا من خلال ما يسميه هيجل بتجربة «الحب الحقيقى» أى الحب مدفوعاً بما هو حى، فهنا لا ينظر المحب والمحبوب إلى كل منهما على أنه «موضوع» بل على أنه هو «الكل» أو هو الحياة ذاتها، فالحب الحقيقى من شأنه استبعاد كل ألوان التناقض والتضاد القائمة بين الأفراد، ويتطلب «تسليماً» تاماً، أى أن يسلم كل من المحب والمحبوب ذاته إلى الآخر ويتجاوز فرديته حتى يتحقق الاتحاد الكامل! وينبغى ألا يفهم أحد أن هيجل يتحدث هنا عن الحب الإلهى كما عند فلاسفة الصوفية، إذ إن ما يقصده هيجل هنا أن تجاوز الفردية فى تجربة الحب الحقيقى معناه إعلاء الفردية والتسامى بها– إن صح التعبير- إلى نطاق أعلى فتكتسب ثراء وخصوبة كانت تفتقر إليهما فى حال الانفصال والانعزال، فالفردية إذن تظل باقية وموجودة فى تجربة الحب الحقيقى لا من حيث هى شىء منفصل ومنعزل عن الآخرين بل من حيث هى متحدة مع آخر «حيث تثرى كل منهما الأخرى»!
وبعيداً عن لغة هيجل الفلسفية العميقة، يحدثنا هنا عن نوع من الحب الحقيقى الذى يسمو بعاطفة الأفراد المحبين إلى درجة العشق الذى تختفى فيه الماديات والمنافع، ولا يبقى إلا عشق كليهما للآخر لدرجة أن يصبحا أشبه بكيان واحد أو على حد تعبير الحلاج «أنا من أهوى ومن أهوى أنا.. نحن روحان حللنا بدنا»!
والسؤال الآن هو: هل هذا النوع من الحب الحقيقى بهذا المعنى المثالى الهيجلى يمكن أن يكون له وجود فى عصرنا؟! وهل يمكن أن يتحقق التوافق بين فردين لدرجة فناء ذات أحدهما فى ذات الآخر وكأنك أمام فرد واحد وليس بين فردين كل منهما له مطالبه وحاجاته وطموحاته الفردية المختلفة؟! أم أن هذا المعنى للحب اختفى من الوجود إلى غير رجعة منذ أن طغى التقدم التكنولوجى على كل قيمة إنسانية مجردة من الأطماع والأهواء والمنافع؟!