عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

على فكرة

كنت فى الجزائر عندما عقد المجلس الوطنى الفلسطينى دورته السابعة عشرة منذ تأسيسه والأولى بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، فى شهر فبراير عام 1983. حملت طائرة خاصة فيما أتذكر، وفدا كبيرا من قادة أحزاب المعارضة المصرية فضلا عن كتاب وفنانين ومخرجين وصحفيين ومحامين ونقابيين وشخصيات عامة، للمشاركة فى أعمال تلك الدورة بهدف لا أظن أن سلطة الرئيس مبارك كانت تعترض عليه، وهو إبداء الدعم والمساندة من القوى الشعبية المصرية لياسر عرفات وللمقاومة الفلسطينية، لاسيما أن استقبالا شعبيا ورسميا فى مدن القناة كان قد جرى للترحيب بسفن المقاومة القادمة من بيروت أثناء عبورها البحر المتوسط وهى ترسو أمام الشواطئ المصرية وكان عرفات على متنها بطبيعة الحال. وفى لقاء ضم وفد حزب التجمع لمقابلة «أبوعمار» قبل بدء جلسات أعمال المجلس، استهله عرفات كعادته دائما، باحتضان كل أعضاء الوفد وتقبيلهم، حيث صار يلقبه محبوه وخصومه بأنه بواس حضان، وحين همّ بالارتماء فى أحضان خالد محيى الدين وقبل أن يقبل رأسه، قال له ما حدث، ما كان له أن يحدث، كيف تقل طائرة واحدة كل هذا الحشد من الرموز السياسية والشعبية المصرية، لماذا لم تأتوا متفرقين تحسبا لأى مخاطر محتملة. كانت الملاحظة كاشفة لشخصية «أبوعمار» الذى علمته تجاربه المريرة للنضال من أجل القضية الفلسطينية المراوغة والمناورة والحذر، وعدم ترك الأمور للصدف، بل التفكير فى توقعها قبل حدوثها.
ودورة المجلس الوطنى الفلسطينى تقترب من إنهاء عملها، ألقى «محمود درويش» معلقته البديعة «مديح الظل العالى» التى كان يرثى فيها معشوقته بيروت «بيروت قلعتنا.. بيروت دمعتنا» وخذلان النظام العربى للفسطينى «واسحب ظلالك عن بلاط الحاكم العربى، حتى لا يعلقها وساما، واكسر ظلالك كلها، كيلا يمدوها بساطا أو ظلاما» وتعد واحدة من أجمل قصائد الشعر العربى الحديث. لم يقرأ أحد شعر «محمود درويش» بأجمل مما فعل هو. خطف درويش قلوب مستمعيه من الوفود العربية الغفيرة داخل قاعة الاجتماع بإلقائه البديع والفريد. كان صوته يعلو وينخفض، ويلوح بيده بعنف ثم يومئ بلطف، وينحنى ويستقيم، وتحمر وجنتاه انفعالا، وتنعقد خطوط جبينه وتنبسط، والقاعة لا تكف عن التصفيق والهتاف والصخب بعد كل مقطع يدمى القلوب المتلهفة لعدل العالم. بعد هذا اليوم صرت أظن أنه لو لم يكن محمود درويش شاعرا فذا، لربما غدا ممثلا عبقريا. اقترب درويش من إنهاء إلقاء قصيدته قائلا:
ما أوسع الثورة
ما أضيق الرحلة
ما أكبر الفكرة
ما أصغر الدولة
انتفض «أبوعمار» من مقعده واقفا، وهو يشير بيديه الاثنتين نحو محمود درويش ملوحا بالرفض لرسالة القصيدة الأخيرة، التى تحثه على رفض مشاريع التسوية التى تنتقص من حقوق الشعب الفلسطينى وقال: لا.. لا أوافق أعطنى دولة ولو «متر فى متر».
تذكرت هذه الحكاية بعدما قرأت الحوار الهام الذى أجراه الأستاذ «غسان شربل» رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط مع القائد الفلسطينى «ياسر عبدربه» أمين السر السابق للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأحد المقربين من ياسر عرفات ممن شاركوا فى جولات المفاوضات المتعددة مع الجانبين الإسرائيلى والأمريكى سعيا لتنفيذ تعهدات اتفاقيات أوسلو، وكشف فيها عن المناورات الأمريكية – الإسرائيلية المشتركة للمراوغة والتنصل من العهود. وأوضح كيف ساهمت إدارتا كلينتون وبوش الابن فى إضعاف سلطة عرفات بعد تشكل السلطة الوطنية فى أعقاب أوسلو، وبترويج الأكاذيب خدمة لضمان نجاح الحكومة الإسرائيلية القائمة، ليتم التأكد مجددا أن ممارسة الضغوط على الفلسطينيين لتقديم مزيد من التنازلات للتحكم فى نتائج الانتخابات الأمريكية والإسرائيلية، كم يحدث الآن، بات سياسة ثابتة لدى الطرفين الأمريكى والإسرائيلى، وعصفا بمبادئ القانون الدولى وقيمه الأخلاقية. كما تم وصم عرفات بالإرهاب والمراوغة بعد مصادرة سفينة محملة بالأسلحة متجهة إلى غزة وتحميله المسئولية عن خرق الاتفاقات التى لم تلتزم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أصلا ببنودها، والضغط عليه لتشكيل حكومة وتولى محمود عباس رئاستها ورفض المسئولين الأمريكيين والإسرائيليين التعامل معه.
كان محمود درويش يحب ياسر عرفات، لكنه لا يثق فى حسن تقديراته، وظل هو وإدوارد سعيد مستشارين مقربين من عرفات، وعضوين بالمجلس الوطنى الفلسطينى حتى اتفاقات أوسلو. لكن ادوارد سعيد وجه انتقادات صحيحة شكلية وموضوعية فى الوفد الذى تشكل مع عرفات فى مفاوضات أوسلو، وفى القلب منها أن «أبوعمار» وأحمد قريع الذى كان يوصف بمهندس اتفاقات أوسلو لم يكونا يعرفان اللغة الإنجليزية بالقدر الكافى، الذى يجنب المفاوض الفلسطينى الوقوع فى براثن المصطلحات اللغوية المراوغة التى يتقنها الجانب الإسرائيلى، وتفرض حقائق على الأرض لم تظهر بشكل واضح للجانب الفلسطينى أثناء التفاوض، لكنها تجلت فى الوضع القائم الآن «دولة متر فى متر»!
وللحديث بقية