رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

نداء القلم:

ليس بعجيب ولا هو عندى بغريب أن يقال إن الشعب المصرى شعب متدين بطبعه، لكنها عبارة قد يقولها العالم وقد يقولها الجاهل الذى لا يعلم مصدرها فى مسار التاريخ ولا مبعثها فى تيار الحضارة، وقد يستوى العلم مع الجهل فى غياب هذا المصدر واختفاء ذلك الباعث الذى يقرّرها كحقيقة واقعة ملموسة لا ينقضها شهود العيان، فتدُّين الشعب المصرى حقيقة ملموسة بين يدى الواقع المشهود، لا نكران فيها ولا خلاف عليها، لكن العالم حين يعلم هذه الحقيقة غير الجاهل حين يرددها دون أن يقف فيها على الفحوى والمعنى والدلالة فى مسار التاريخ.

ومع ذلك؛ فقد يكون الرجل البسيط أصدق شعوراً وأخلص سجيّة وأقدر تبعة من أعلم العلماء فيما يحمله من حبّ لوطنه وقدرة على الذود عنه من كل مكروه، وهو ولا شك يعطينا أبلغ الأدلةً أمثلة ظاهرةً من الواقع المشهود على تلك الوطنية المتجذرة فى أعمق أعماقه وأنفذ طواياه؛ فإن اتصاله بالأرض وعبادته للشمس وتعلقه بنسيم بلاده على الأصالة منذ فجر حضارته الأولى لأمور كلها تؤكد فى المصرى وطنيته المستقرة على الولاء، فما بلغ من بلغ منه إلا وهو متصل بالطين المصري، ولا ولاء له على التحقيق بل الولاء لحكمة البقاء فى قلب التاريخ. 

والإيمان بالروح: فلسفة الأمة المصريّة فى تاريخ الحضارة ممّا لا شك فيه، فالأمة المصريّة من أقدم عصور التاريخ كانت تؤمن بالله واليوم الآخر والحساب والعقاب وغلبة الخير على الشر وخلود الروح. وهذه مؤهلات الإيمان بالوجود الروحى المُقدّم على الوجود المادي، والذى يُمثّل ركناً أساسياً يشهد على أن الوجود المحدود، وإن طال بصاحبه، لا يستعمل للحقائق الباقية ولا يجيز البقاء فيها بوجه من الوجوه.

ولعلّ هذا السّر هو سبب نشوء الحضارة والإشادة بتأسيس علم المصريات منذ فجر التاريخ، ولم تكن الدنيا تعرف عن الحضارة إذ ذاك شيئاً، ولم يكن يعنيها أن تعرف عن ميادين الفن والدين والثقافة شيئاً قبل أن يعرفها المصريون بقرون طويلة؛ فالمصرى أستاذ الحضارة والثقافة بإطلاق، من حقه أن يفخر بهذا على الدوام، وأن يحفظ تلك الأستاذية فى نفسه مع تقلب الأجيال، وهو أول من نقش المعابد، وأول من علّم الإنسان الكتابة، وأول من أجاد فنون التعبير، وأول من تديّن وأول من تثقف وأول من آمن بالبقاء.

مصر التى تبدو وكأنها مجمع النقائض ومُلتقى الأضداد؛ لهى هى مجلى الحضارة فى بطن التاريخ؛ لأنها مجلى الله فى أرضه. الأرض الوحيدة التى تجلّى الله فيها فكلّم الأنبياء ولم يتجل فى أرض غيرها، هى مصر. ولم يكن العالم كله إذ ذاك قد خرج عن جوف العدم، ولم تكن الدنيا باصرة للشهود العيان، إذ كانت مصر أستاذة الدنيا راقية بثقافتها، مستقرة بهياكلها ومحاريبها، متبتلة فى معابدها وعقائدها الدينية وآدابها وفنونها، قدوة ومثلاً أعلى تعلّم العالم بما تبدعه من ألوان الفنون وصدارة العقائد ونشوء الفلسفات.

لمّا كان الشاعر اليونانى «هوميروس» ينظم ملحمته «الإلياذة» لم يكن للأمة الرومانيّة وجودٌ على البسيطة، على حين كانت مصر، أستاذة الدنيا، قد أمضت من تاريخها أربعين قرناً تنشئ أدباً وتبدع شعراً وتنظم للناس خُلقاً من طريق الديانة. هى إذن أم الدنيا حقيقة لا مجازاً، من يقولها وهو يعلم تاريخها، يقولها وهو يقدّم حقيقة ولا يقول مجازاً بعيداً عن الحقيقة فى شيء : أم الدنيا واقع فى التاريخ وأصالة بالحقيقة فى سبق الحضارة.

نشأ الدين فى مصر ولم ينشأ فى بلاد غيرها، وسكن المجد مصر قبل أن يكون للعالم وجود. هى إذن أمُّ الدنيا بغير خلاف ولم يستطع أحد كائناً ما كان أو من كان أن يقول غير هذا أو يدّعى غير هذا، لأن الدعوى ممجوجة ممّا لا يقوم عليها دليل تصبح خارج نطاق التاريخ (وللحديث بقيّة).