عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

هموم وطن

أحمد الله تعالى أننى عاصرت نهاية جيل الستينيات وبداية السبعينات، فباختصار عاصرنا المنازل المصنوعة من الطوب اللبن، والمسقفة بالأخشاب أو البوص أو سعف النخيل، عاصرنا أبواب المنازل الواسعة والمفتوحة ليلًا ونهارًا، عاصرنا أيضاً أفنية المنازل الفسيحة التى يتم فيها دراس المحاصيل وتخزينها، رأينا الأشجار والنخيل وتكعيبات العنب أمام وخلف وفوق كل منزل، كانت طفولتنا بسيطة بالمقارنة بطفولة أبنائنا وأحفادنا، كنا فى أشد الأجواء حراره نلعب الكرة حفاة، ونتحدى بعضنا البعض أينا أكثر تحملًا للسير على الأرض الملتهبة، كان نهر النيل والترع والمساقى التى تأخذ منه جداولها نظيفة لم يطلها التلوث آنذاك، وكانت هى ساحلنا الشمالى، وكنا لا نحزن لعدم عرض أفلام (باربي) ولا لعدم حضور حفلات تامر حسنى وعمرو دياب، كان التليفزيون الأسود والأبيض متعتنا الحقيقية، ونحن نضحك من أعماقنا على حركات إسماعيل ياسين وزينات صدقى وحسن فايق، وكنا ننتهى من الأفلام لنخرج سويًا نتقمص أدوار الشر للمليجى وتوفيق الدقن، وأدوار البطولة والشهامة لفريد شوقى ويحيى شاهين وأحمد رمزى، وكانت الأمهات يجلسن قريبًا من الشاشات، ويديرن المؤشر حتى تنتهى مشاهد الرقصات أو ما شابه ذلك، وكنا ندير وجوهنا حياء بكل براءة.

كانت بيوتنا فى الصيف لطيفة الأجواء بسبب ارتفاع الأسقف واتساع الشرفات، وكنا لا نعرف معنى كلمة مروحة إلا بعد دخول الكهرباء أوائل الثمانينيات، وكانت الحوائط عريضة محارتها بالطين، وفى الشتاء كانت دافئة مثل قلوب أصحابها الذين رحلوا عن عالمنا، قبل أن يروا كل شيء وقد أصبح النقيض، لن يصدقوا إذا عادوا إلى الدنيا ووجدوا أن الترع والمساقى والمصارف التى حفروها بأظافرهم وفؤوسهم لوثتها ملايين الأمتار المكعبة من مخلفات الصرف الصحى، لتغير لونها من الأبيض الرقراق إلى الأسود كريه الرائحة، لتروى بها محاصيل وخضراوات تجلب الأمراض وتنشر التلوث.

‏لم يتخيل الأبناء والأحفاد أن من عوامل رفع درجات الحرارة إلى حد الموت هو حرق الأكياس والزجاجات البلاستيكية، التى لم نسمع عنها إلا فى منتصف الثمانينيات، وكانت النساء فى شوارعنا وحول الحقول يبحثن عن سعف النخيل والبوص والورق وبقايا الجذور: لاستخدامها فى الأفران البلدية لصنع الخبز البلدى بكل أنواعه.

‏دهانات المنازل بأحدث البويات المصنوعة من الكيماويات والبترول والرصاص تشعل الحروب معنا صيفا وشتاء، بسبب ما تشعه من حرارة فى الصيف وصقيع فى الشتاء.

‏أبناؤنا يشبهون الدواجن البيضاء من شدة الحر، يلهثون ويخرجون ألسنتهم إذا انقطعت الكهرباء عدة دقائق، نغلق عليهم الغرف وفى أيديهم ريموت التكييف والتليفزيون والألعاب، ونهرول بهم إلى الأطباء لعلاج التقزم ونقص المناعة وضعف النظر والتوحد؛ لأنهم ببساطة شديدة لم يصقلوا أجهزة المناعة لديهم بما واجهته أجيالنا من صعاب وتحديات وتأقلم مع الواقع.

‏لا يشغلنى فى هذه الأجواء القائظة إلا الخوف من نفص المياه وتبخرها وهدرها وعطش الحقول والمزارع، والتى ما زالت فروعها وأوراقها تمنحنا الأكسجين وننفث إليها ذرات ثانى أكسيد الكربون الكريهة، والتى ترفع الرطوبة وتصيبنا بالاختناق، فما بالنا إذا ذبلت لا قدر الله.

‏حفظ الله بلادنا من كل مكروه ووقانا وإياكم عذاب الدنيا والآخرة.