نداءُ القلم:
هنالك قيمة باقية، وستظل باقية، ما بقيت فى الإنسان قواه الروحية يعرج بها صعدًا فى طراز رفيع من المطالب العلوية كلما تذكر هذه الرحلة الشريفة المباركة؛ فمعجزة الإسراء والمعراج تطلعنا على أن العروج الإنسانى متاحٌ للإنسان فى هذه الدنيا وميسورٌ له إذا أراده وعمل له وتوخَّاه. وأهم ما يمثله هو «فريضة الصلاة»؛ ففى الصلاة يعرف ويدرك ويتذوق كل مسلم له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أنها معراج روحى تتحد فيه العلاقة المفصومة بين الأرض والسماء. وليست هى مجرد حركات لا تدلُّ على عمل القلب وينفرد بها القالب وحده، كلا بل هى شعور بتحقيق الوحدة مع الحق تعالى فى أيسر وسيلة للقرب وللصلة، وأعظمها فريضة على الإطلاق.
ولما كانت الصلاة أمرًا من الحق تعالى فى قوله «وأقيموا الصلاة»؛ فهى مخصوصة هنا بإقامة المعراج على الحقيقة، إنْ لم تكن هى لب لباب المعراج الروحى يتخذه العارفون؛ بل يتخذه المسلمون جميعًا دعامة روحية للاتصال بالله ومحبته ولقائه على السّعة والحضور. وإذا كانت الصلاة لغة تأتى بمعنى الذكر والانقياد صارت فى الوقت نفسه تجرى فى عبارة الفقهاء مخصوصة تطلق على الأحكام المعتادة، إذْ كانت أمرًا من الحق أن أقيموا الصلاة خمس مرات. وتلك هى القيمة الباقية: الحكمة من وراء المعراج: إقامة الصلة بين الأرض والسماء. وإنى لأذكر تحليلًا ذوقيًا راقيًا للمرحوم الدكتور «محمد إقبال»، وهو بصدد تعرضه لمعجزة الإسراء والمعراج مفاده أن: محمدًا الإنسان يستطيع أن يذهب فى مراقى التسامى والنقاء والقدرة الروحيّة إلى أعلى الغايات.
حقيقةً؛ لا ينفصل الحديث عن المعراج بمعناه الروحى، عن الحديث عن الإسراء بمعناه الدينى، كلاهما (الإسراء والمعراج) يصدر عن مشكاة من النور واحدة، وكلاهما يحيل الغيب من طريق الذوق إلى شهود، وكلاهما يرتفع فوق مرتبة الحسّ المشاهد والعقل المحدود؛ ليخاطب فى الإنسان ملكات أعلى من العقل وأدنى إلى البصيرة وأقرب إلى الإيمان.
وإذا كان المعراج عرضة للإنكار من قِبل العقول البليدة والقلوب الخربة والتوجهات الفاسدة والأيديولوجيات الموظفة لخدمة مآرب ساقطة، مع أنه متاح ميسور كمعراج الأولياء، يدور حوله اللغط من أناس لا يرتفعون قيد أنملة عن أوْهَاق التصورات الموبوءة، كما هو عرضة كذلك لإثارة التساؤلات العقيمة والفتن والطامات الدالة على إقفار الذات من الترقى المعرفي؛ فمن المؤكد أننا لسنا ندرى: لِمَ تتوقف العقول الخربة أمام المعراج، ولا تتوقف أمام الإسراء، وكلاهما تثبتهما براهين النصوص السمعية، بل آيات القرآن الكريم بسورتى الإسراء والنجم؟
وبعيدًا عن اللغط المنفّر ودخولًا فى موضوعنا مباشرة، نرى المعراج فى وعى الولى يستند بالمباشرة على معراج النبى، صلوات الله وسلامه عليه، ولا يستند مطلقًا على مصادر غير هذا المصدر المباشر يقوم عليه. ولئن كان معراج الولى يتخذ من معراج النبوة قدوة له ومنهاجًا إلا أنه فى نفس الوقت يختلف عنه مقدار اختلاف الوعى النبوى عن الوعى الصوفى، وهو بتقرير البداهة اختلاف درجة لا اختلاف نوع. ولقد عَبَّرَ صوفى هندى مسلم هو «عبد القدوس الجنجوهي» عن إرادة الاتصال الدائم من مقام الشهود حيث لا رجعة ولا عودة، حين قال:»صَعدَ محمد النبى العربى إلى السّموات العُلى ثم رجع إلى الأرض. قسمًا بربي! لو أنى بلغت هذه المقام لما عدتُ أبدًا»؛ فهذه هى غاية الولى من وراء المعراج: الوصول الدائم والاتصال الذى ما بعد عودة، ولكن هيهات! فليس كل معراج لولى يجب أن يكون هو عينه معراج النبى. بخلاف الأنبياء؛ فإن معاريجهم الروحية تقتضيها حاجة الناس للتربية الروحيّة وللتعليم والتبليغ؛ لأن النبى مبعوث إلى الخلق فبالناس حاجة إلى معرفة صدقه، ولا يعرف إلا بالمعجزة. بعكس معراج الولي؛ لأنه ليس بواجب على الخلق، ولا على الولى أيضًا العلم بأنه وليّ؛ فرجعته من معراجه ليست كرجعة النبى تقتضيها رسالة التبليغ.