رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

قبل مايقرب من خمسين عاما تركت قريتنا الوديعة « أبو داوود « احدى قرى مركز السنبلاوين – دقهلية آنذاك، وانتقلت للقاهرة عام 1974 ملتحقا بكلية الإعلام، وفى ذلك الوقت لم يكن بقريتنا أكثر من خمسة مساجد وثلاث مدارس – اثنتان ابتدائى والثالثة إعدادى.. لم تنقطع صلتى بقريتى طوال نصف قرن وحتى يومنا هذا، اسافر بشكل منتظم مستمتعا بمنزلنا الريفى وبأهلى وأصدقاء الطفولة والصبا والشباب.. ومن اللافت أنه خلال هذا النصف قرن المنصرم أصبح فى قريتنا ثلاثين مسجدا وثلاث عشرة مدرسة..

وفى الأسابيع الأخيرة تبنى عدد من الشباب الدعوة لإعادة بناء مسجد « الشيخ عيد « بعد أن أصبح المسجد القديم متهالكا.. والشيخ عيد رحمه الله أستاذ فاضل للغة العربية والعلوم الشرعية، وأعرف عنه « يرحمه الله « طيبته ونبل أخلاقه واعتدال فكره.. قريتنا التى كانت وديعة قبل خمسين عاما، ومحرومة من الكهرباء، ومياه الشرب، وكان تعدادها لايزيد فى ذلك الزمان على خمسة عشر ألف نسمة أصبح الآن عدد سكانها يتجاوز السبعين ألف نسمة.

 لم تعد بالتأكيد قريتنا مثل معظم قرى الدلتا ومصر وديعة ولكن ضاق المكان بالناس، وانتشرت البطالة وضنت الأرزاق على كثيرين.. هنا أتساءل دون هوى فى نفسى : ألم يكن من الأوقع والأنفع للناس أن يتسابقوا بالتبرع لبناء منشآت صحية وتعليمية وصناعية تعود عليهم وعلى الشباب تحديدا بالنفع، وهل هذه القرية بحاجة الى ثلاثين مسجدًا وقد يزيد العدد خلال عقدين قادمين الى أربعين أو أكثر ؟.. وربما لا يعرف كثيرون أن كل حارة بها، دار ضيافة تسمى « مندرة الحارة « ولاتفتح إلا فى مناسبات العزاء وكلها دور بنيت بتكاليف ليست قليلة.. للأسف الشديد أنه على مستوى كل ريف مصر لايوجد تخطيط فوقى بمعنى كلمة تخطيط من الدولة، وترك الريف ينمو ويتضخم بشكل عشوائى.. النتيجة الطبيعية أن هذه المجتمعات التى كانت بسيطة ووديعة تحولت فى كل ريف مصر الى « مفرخة « للتطرف الدينى، ولم يكن لتنظيم مثل الإخوان المسلمين أن يكبر بتوحش ويلتهم عقل وقلب ريف مصر إلا لأن هذا الريف نسيته أو تجاهلته حكومات متعاقبة من مطلع القرن الماضى وحتى اليوم.

 جماعة الإخوان جماعة شيطانية تمرست على العزف على الوازع الدينى الشكلى عند البسطاء، وكثيرا ما كان المنتمون لهذه الجماعة بالعضوية او الهوى هم من يقودون حملات التبرع لبناء مساجد جديدة، ومازالت دعاواهم مسيطرة على مساجد قريتنا التى ينطلق الآذان من ثلاثين مسجد بها فى وقت واحد خمس مرات يوميا، واعلى كل مسجد مثبت أربعة ميكروفونات تغطى الجهات الأربع.. تصوروا قرية صغيرة وبالذات وقت الفجر تنطلق الميكروفونات من ثلاثين مسجدًا من قبل الآذان بنصف ساعة فى تلاوات قرآنية مختلفة دون مراعاة لأطفال رضع ومرضى وكبار سن.. كل ذلك فى غياب أى تدخل من سلطة محلية أو وزارة أوقاف.

 محاولات الدولة الآن لتنمية الريف جهد مشكور ولكنه أتى متأخرا جدا بعد استفحال أمراض كثيرة.. الخطيئة الكبيرة أن يتصور المسئولون أو الحكومة الآن أن تنمية الريف مسألة منحصرة فى تبطين الترع وتوصيل مياه الشرب ومد خطوط للصرف الصحى وإنشاء بعض المساكن.. كل هذا جميل ولكنها فى المجمل مشروعات خدمية ستجمل الوجه، ولكن سيظل العقل يئن من أوجاع كثيرة.. سيظل الوعى مدفونا تحت التراب.. ستظل المخدرات تنهش فى الشباب والكبار.. ستظل البطالة تضرب بقوة فى عصب هذه المجتمعات.. ريف مصر الذى يمثل قرابة 60% من مصر المحروسة بحاجة للتنوير والعمل الاجتماعى الواعى والمكثف.. بحاجة لمن يعترف ويؤمن بأن ثروة مصر الحقيقية فى ريفها لأن غذاء مصر يأتى من هنا.. المجتمعات المريضة لاتنتج صحة، ولم تكن الصحة يوما ما معدية – فقط الأمراض هى القادرة على العدوى وانهاك الجسد والنفس.

 قريتنا نموذج لمجتمع تعلم وسافر ابناؤه لكل بقاع الأرض ولكن عقله بقى قديما.. وعاد البعض بالمال وتحول هؤلاء من فقراء الحال إلى أغنياء قياسا بأرصدتهم الجديدة فى البنوك، ولكن ما يؤلم أن ماكان من رصيد لبساطة العقل والشعور لدى هذه الطبقة الجديدة ذهب، ومكانه حلت أخلاق السوق والتدين الشكلى الذى يستغل عتبة للصعود ابتداء من المحليات وحتى البرلمان. مسجد الشيخ عيد مجرد عنوان صغير لقضية أكبر بكثير مما نتخيل..