رؤى
قبل سنوات فوجئت بوجود مقولة »لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»، فى حديث صحيح مرفوع إلى الرسول الكريم، وقد ذكرت فى صحيح البخارى ومسلم، وأبوداود، وابن ماجة، وذكر إنها قيلت فى شاعر اسمه أبوعزة.
وأبوعزة، اسمه عمرو بن عبدالله الجمحى، وكنى بأبى عزة، نسبة لابنته الكبرى، وهو أحد الشعراء الذين أدركوا الإسلام وهاجموا الرسول عليه الصلاة والسلام، وقصته مع الرسول ذكرت فى العديد من المصادر: سيرة ابن هشام، والروض الأنف، وطبقات فحول الشعراء، وفتح البارى، والبداية والنهاية، والتلخيص الحبير.
قيل وقع أبوعزة فى الأسر يوم بدر ولم يجد من يفتديه، وكان كثير العيال، وقال للرسول عليه الصلاة والسلام بعد أسره: من للصبية يا محمد!! فعفى عنه النبى، وذكر ابن سلام فى طبقات فحول الشعراء: كان مملقا ذا عيال، فأسر يوم بدر كافرا، فقال:
ــ يا رسول الله، إنى ذو عيال وحاجة قد عرفتها، فامتن على
ــ فقال الرسول: على أن لا تعين على، يقصد شعره
ــ قال نعم، وعاهده وأطلقه، فقال: ألا أبلغا عنى النبى محمدا/ بأنك حق والمليك حميد
فلما كان يوم أحد، دعاه صفوان بن أميه بن خلف الجمحى، وهو سيدهم يومئذ، إلى الخروج، فقال: إن محمدا قد منّ علىَّ وعاهدته أن لا أعين عليه، فلم يزل به، وكان محتاجا فأطمعه، والمحتاج يطمع، فخرج فسار فى بنى كنانة فحرضهم فقال: يا بنى عبد مناة الرزام / أنتم حماة وأبوكم حام/لا تعدونى نصركم بعد العام/ لا تسلمونى لا يحل إسلام
ابن اسحاق فى السيرة ذكر وأكد رواية قتل الرسول لأبى عزة، قال: إن أبا عزة أسر يوم أحد، فقال: يا رسول الله من على؟، فقال النبى عليه السلام: لا يلسع المؤمن من جحر مرتين وقتله.
ابن سلام صاحب طبقات فحول الشعراء شك فى صحة الرواية، فقام بعرضها على ابن جعدية، ونفاها الأخير بقوله: ما أسر يوم أحد هو ولا غيره، وفجر مفاجأة من العيار الثقيل، مؤكدا لابن سلام انتحار أبوعزة، وحكى له واقعة الانتحار بقوله: برص أبو عزة بعد ما أسن، وكانت قريش تكره الأبرص وتخاف العدوى، فكانوا لا يؤاكلونه ولا يشاربونه ولا يجالسونه، فكبر ذلك عليه، وقال: الموت خير من هذا، فأخذ حديدة وصعد إلى جبل حراء يريد قتل نفسه، فطعن بها فى بطنه، فضعفت يده، فمارت الحديدة بين الصفاق والجلد، فسال ماء أصفر، وذهب ما كان به.
بغض النظر عن صحة واقعة قتل الشاعر أو انتحاره ما يهمنا هنا أن نؤكد أن مقولة لا يلدغ المؤمن ليست من المقولات التى تنسب الرسول، بعنى أنه تم ارتجالها، بل هى أقدم من الرسول، وكان العرب يتداولونها قبل وبعد ظهور الرسول عليه الصلاة والسلام، وفى واقعة أبوعزة استخدمها كما يستخدمها غيره.