رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

قبل أن يأتى نابليون بونابرت على رأس حملته إلى مصر صيف عان 1798 سأل من حوله عن الفنون والآداب فى هذا البلد القديم، وأخبروه انها بلد بلا أنوار وربما بلا عقل.. بلد الناس فيها أحياء لكن داخل كهف الزمن الذى استقروا به مع نهايات تجليات فراعنتهم الأوائل المطمورين بأسرارهم فى جوف الأرض.. هنا قرر نابليون أن تضم قائمة علمائه وباحثيه المرافقين لحملته فريقا من أهل الفن والأدب لاجراء ما يشبه عملية التنفس الصناعى لشعب يعانى من ضيق تنفس تاريخى.

وطبقا لما ورد بكتاب الباحث الانجليزى فيليب سادجروف «المسرح المصرى فى القرن التاسع عشر» الصادر عن المركز القومى للترجمة، أنه بعد احتلال الفرنسيين القاهرة بأيام وتحديدا يوم 21 يوليو 1798 بدأت فرقة موسيقية فرنسية تعزف بمنطقة الأزبكية، وافتتح ملهى «تيفولى» للموسيقى والرقص ولعب القمار ومقصف لتناول المرطبات، وفى اكتوبر 1798 تم تأسيس جمعية من الهواة بهدف تقديم عروض مسرحية.. أول جريدة اصدرها الفرنسيون بالقاهرة هى جريدة «كوريى ديجيبت» كأول جريدة مصرية تغطى أنشطة هواة المسرح بمصر. وقبل أن يعود بونابرت إلى فرنسا بنهاية أغسطس 1799 كتب نابليون تعليماته إلى سلفه كليبر يوم 22 أغسطس: لقد طلبت عدة مرات فرقة من الكوميديين، وسوف أحرص بشكل خاص على إرسال فرقة إليك، فهذا البند ذو أهمية كبيرة للجيش الفرنسى، كما أنه وسيلة للبدء فى تغيير عادات هذا البلد « نفس المصدر السابق».

وبعد قرابة القرن ونصف من حملة نابليون تعرضت فرنسا بلد الأنوار لغزو نازى هدد العقل والخيال الفرنسى بالدمار التام، وهنا كانت فرنسا على موعد مع جنرال من نوع آخر فى عصر آخر، وهو الجنرال شارل ديجول الذى قاد حركة الخلاص من النازى فى اعقاب احتلال باريس 1941، وعندما تسلم أمانة حكم فرنسا اختار مفكرًا ومثقفًا كبيرًا هو «أندريه مارلو» ليكون وزيرا للثقافة وقال ديجول وقتها: فرنسا بحاجة لاستعادة روحها والثقافة هى الأساس الصلب لأى عملية بناء. الجنرال ديجول كان واعيا جدا – بل ومؤمنا – بأن الثقافة هى الأساس لحماية مكانة بلاده من الانتهاك والضياع.

بعد اقل من عشر سنوات تكررت تجربة الجنرال الفرنسى ديجول على يد كولينيل مصرى هو جمال عبد الناصر، وفى أعقاب ثورة 1952 آمن الشاب الأسمر بأن استقلال مصر عن بريطانيا هو إنهاء لحقبة من الاحتلال العسكرى، ولكن مصر ما زالت أسيرة احتلال أبشع من الجهل والخوف والاغتراب عن الذات، وأن هذه الأمة بحاجة لاستعادة ملامح شخصيتها، وإعادة بناء عقلها المنهك.

 وللحقيقة والانصاف إن حركة التنوير الحديثة بمصر بدأت فى أعقاب الحملة الفرنسية، وتوهجت فى اعقاب ثورة 1919، ولكن قيمة ما اتجه إليه جمال عبد الناصر أنه نقل التنوير والثقافة من الصالونات للشوارع، ومن القصور للقرى.. الكولينيل المصرى كما الجنرال الفرنسى أتى بمثقف بديع وجميل هو الدكتور ثروت عكاشة (1921 – 2012) وعينه وزيرا للثقافة عام 1958 (حصل عام 1960 على دكتوراه فى الآداب من جامعة السوربون – باريس) ونجح الرجل فى جزء كبير من مهمته أو رسالته. وبدأت الدماء تجرى فى أوصال الشخصية المصرية سينما ومسرح وفنون شعبية وحركة نشر وموسيقى ومعاهد فنية.. ثم حدثت نكسة 1967 وكان السقوط كفيلا بالموت الكامل وعودة هذا البلد إلى كهوف النسيان من جديد، ولكن كما قال الجنرال ديجول بأن الثقافة هى القوة الصلبة الحامية من الانتهاك والضياع.. وأتصور أن مصر لم يحمها تاريخيا إلا مكونها الثقافى، ولم يشوهها تاريخيا إلا القهر السياسى والدينى..

وبعد نصف قرن من رحيل كل من الجنرال ديجول (9 نوفمبر 1890 – 21 نوفمبر 1970) والكولينيل ناصر (15 يناير 1918 – 28 سبتمبر 1970) تستمر فرنسا فولتيير وموليير وديكارت وفوكو وديجول وميتران منارة لصلابة الثقافة التى تعتبر أقوى سلاح إعمار شامل بيد فرنسا فى مواجهة ثقافة السوق الأمريكية.. أما نحن فى مصر فقد انطفأت تباعا قناديل التنوير، ودخلنا فى حالة خسوف ثقافى طالت واستمرت، بين سبعينيات انتقامية من الارث الناصرى برمته، ثم ثلاثة عقود «مباركية» سلمتنا «تسليم مفتاح» كرهائن لتحالف شيطانى جمع بين اللصوص والشيوخ. مصر ليست كل هذا العبث، ومن الممكن أن تكون أفضل مما هى عليه الآن، لو استطعنا نحن أن نكون أفضل مما نحن عليه الآن.