رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

المسافة بين النور والظلام هى نفسها المسافة بين باريس وشارع محمد على! عام 1872 افتتح الخديو إسماعيل الشارع الذى حمل اسم أبيه «محمد على باشا» بعد إعادة تخطيطه وتجديده (بطول 2.5 كلم). والمدهش ليس فى المشهد ولكن فى خلفيته التى يقف فيها المهندس الفرنسى «جورج أوجين هوسمان» الذى وضع المخطط المعمارى لباريس الحديثة وأشرف بنفسه على إنشاء حى ريفولى إحدى ضواحى باريس.. هذا المهندس هو من خطط شارع محمد على بنفس نمط العمارة الفرنسية فى قلب باريس. والشارع بالأصل أنشأه محمد على باشا ليصل بين مقر حكمه فى القلعة وحى الأزبكية مقر كبار الأمراء.. ومضت السنون لتصبح باريس عاصمة النور الأولى فى العالم بعلمها وفنونها، وليسقط شارع محمد على من أعلى قمم الجمال إلى أسفل مدارج القبح.

المسافة بين النور والظلام هى نفسها المسافة بين لوحة فنية وشكارة أسمنت! عرف المصريون السينما قبل إنشاء جامعة القاهرة بما يقرب من عشرين عامًا، وكان مولدها الأول بالإسكندرية، ولكن اللافت للنظر أن المهندس «تادرس مقار» كان أول مواطن فى مصر ينشئ دار سينما خاصة عام 1908، وما يستوقفنا اليوم أمام ما أقدم عليه تادرس مقار أن هذا الحدث كان فى «أسيوط» قبل مئة واثنى عشر عامًا وليس بالقاهرة أو الإسكندرية.. لم يتطوع وقتها «مجاهد» بحرق دار السينما بزعم أن منشئها مسيحى، وتعرض حرامًا، (هذا حسب تصور كهنة كل العصور والملل). سينما أسيوط كما أسماها المهندس تادرس مقار كان يدخلها أبناء وبنات أسيوط دون أن يتنمر أحد بعقيدة الآخر، أو يتحرش بهويته.. سينما أسيوط ياسادة أنشئت ربما قبل كثير من دور السينما فى باريس عاصمة الأنوار نفسها. ماذا حدث للمصريين، ولماذا عاندوا سنن الكون وبدلًا من أن يكونوا بعد مائة عام ويزيد من تادرس مقار وطه حسين ولطفى السيد والعقاد وغيرهم- أكثر استنارة- وإذا بهم يفترسهم الماضى ويدهس إنسانيتهم ويسوق عقولهم إلى حيث ممالك الأموات- يستسلمون لسلاطينها وأوليائها ويسلمون مفاتيح المستقبل لحكام القبور.

المؤكد أن الصحة ليست معدية وإنما المرض أو بعضه معديًا ومعديًا جدًا.. بعد قرن من بدايات تادرس مقار وفى تسعينيات القرن الماضى انتقلت ملكية السينما لرجل الأعمال نجيب ساويرس ومنه إلى الشركة العربية للإنتاج والتوزيع السينمائى، التى تمتلكها الفنانة إسعاد يونس وزوجها علاء الخواجة، ثم كانت اللحظة الفارقة التى كان عندها «إرث النور» على موعد مع محافظة أسيوط وديناصورات المقاولات حين صدر قرار من المحافظة بهدم العقار، وأكد حينها محافظ أسيوط آنذاك «المهندس ياسر الدسوقى» أن دار سينما أسيوط انتقلت ملكيتها بالبيع من الشركة العربية للإنتاج السينمائى لإحدى شركات المقاولات، ولا يحق للمحافظة التدخل، لتهدم السينما ويدفن تحت أنقاضها حلم تادرس مقار.

المسافة بين النور والظلام هى نفسها المسافة بين العلم والكهنوت! تصوروا أنه فى عام 1934 تم بناء سينما داخل المعهد الأزهرى بأسيوط «معهد فؤاد الأول سابقًا». وإن لم يكن من المتصور وجود سينما داخل معهد أزهرى، فالأكثر مدعاة للدهشة أن المعهد هذا فى أسيوط. هذه السينما أنشئت فى حينها لعرض الأفلام العلمية الأجنبية للطلاب، لمساعدتهم فى تحصيل العلوم والتثقيف والتنوير.

ربما تكون مصرنا المعاصرة بها عشرات الجامعات ومئات من دور العرض السينمائى وعشرات المدن الجديدة، وآلاف الأبراج السكنية والعديد من محطات الكهرباء التى وصل نورها إلى القرى والنجوع، ولكن ما سيلغى المسافة بيننا وبين باريس والباريسيين أن يصل النور للعقول والقلوب والنفوس.. أن نشق طرقًا مضاءة داخل العقول ليصعب على «هجامة» التحضر قطع طريق المستقبل على من يتشوقون للأنوار، لصرفهم إلى بناء مجد زائف ما بين الجنة والنار.. من يفشلون فى شق طريق آمن نحو المستقبل لا يستحقون الحياة بكرامة ولا الموت بشرف.. وحين تطفأ أنوار العقول تتحول كل المدن الحديثة إلى صور خادعة.