رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

قرب نهايات العمر نفقد الكثير من القدرة على شم رائحة الحب.. غريزة الحب تعلمنا كيف نتعلق بالآخرين من الناس والأشياء، وأروع حادثة حب هى التى تفاجئنا ونحن نبحث عن شيء آخر، إنها صدفة الوجود الأولى التى تنبهنا فى بدايات شبابنا إلى عالم سرى مبهر يتراقص داخلنا، ويغنى للحياة والخلود، وأيضاً للموت غرقًا فى نهر من تهوى نفوسنا.. للحب رائحة سحرية تسقط مطرًا فوق وجوهنا، فتفضحنا وتكشف عن خبايانا. قصص الحب التى نعيد قراءتها فى نهايات العمر تتحول إلى بطولات عاطفيه بأثر رجعى. نحن فى الحقيقة نعيد قراءة كل شىء لا نستطيع استرجاعه، إنها زيارة متكررة لقبر ليلى لأن قيس فى شيخوخته يدرك أنه لا يستطيع أكثر من ذرف الدموع.

وللأنوثة رائحة تتفجر على عتبات العمر الأولى، وتقيم خيمات جمالها وجبروتها فيما ظهر وخفى من جسد صبية كانت قبل حين كقطعة ثلج.. نطل من علياء العمر على وادى الذكريات، حيث تتراقص بمرآة مخيلتنا العتيقة بنات الحور والنور، تخطفنا عيون أصابتنا بالدوار، عيون فاض منها عسل العمر وفرح الأيام، وحبست خلف بريقها أنفاسا تلهث وراء لحظة عشق نادرة.. للأنوثة جبروت لا نتعرف عليه وإليه إلا بعد أن يصعق عذريتنا ويمنحنا شرف الدرس الأول الذى يعلمنا أن فوضى المشاعر وحدها القادرة على كتابة دساتير الهوى.. وحين يمضى بنا العمر بعيدًا عن محطات شبابنا لا يتبقى لنا من الرحلة سوى بقايا حريق كم تمنينا أن نخلد بناره، ولكن حتى نار العشق لكى يبقى لهيبها تحتاج لجذوع الرجال، لا هشيم الشيخوخة.

ومن الحب للثورة تأخذنا قصة الأيام والليالى.. الحب فى دفتر أيامنا كان ثورة على طفولة النفس وعناق لمشاعر مبللة بندى العاطفة الآسر.. من الثورة على الذات رضوخًا لقوانين الحب ننتقل للثورة على الواقع استجابة لصرخات العدل والحرية والكرامه.. للثورة مثل الحب رائحة تملأ الميادين وتسيل فيضانا بالشوارع والبيوت.. انها رائحة الأوطان التى كانت على وشك الموت، وإذا بها تنتفض على وقع أقدام وصيحات العاشقين للنور والحق والجمال.. تمنيت لو كنت شابًا أيام ثورة عرابى أو ثورة 19 أو ثورة 52، وقدر لى أن أكون فى ميدان التحرير أنا وابنتى الصغرى يوم 25 يناير 2011 من قبل أن يستقبل الميدان حالمًا سوانا.. ظللت قرابة الساعة أشم رائحة الثورة ببراءة حالم بالتغيير.. وبدأ الميدان يستقبل أمواج الحالمين، وشعرت بفرحة القريب من بيته وأهلة بعد سنين من الغربة.

للثورة رائحة استفزت بداخلى شبابا ضربه الشيب، ودفعتنى دفعًا للغناء والتحليق بعيدًا بخيال الثائر.. الثورة كما تقول أدبياتها يفجرها الأنقياء ويحصد ثمارها التجار.. أنتمى وكثيرون مثلى إلى كتائب العشاق ولم نكن يومًا ضمن قوافل التجار.. وماهى إلا أيام واختلطت رائحة الثورة بكل عطرها برائحة البارود وزيف التجار وملاعين الموائد ولصوص الأديان.. انطفأت أنوار المولد الذى بدأ بمواويل عشق الأوطان وانتهى بسرقة الأوطان.. سكت المغنون ونزلوا من فوق مسرح العشق، وصعد اللصوص يرتدون أثواب الدراويش، لتنتهى القصة وتتوه الثورة وسط مولد اختلط فيه الحق بالباطل، والإيمان بالكفر، والرسل باللصوص.

وكما للحب والثورة من رائحة نقشت عبيرها فوق جدران القلوب، فإن للموت رائحة تسبق موكب قدومه.. قوانين الحياة والطبيعة كم هى رائعة فى عدلها وجمالها، لأنها تمنحنا فى نهايات العمر ألوانًا من الحكمة تقوى مناعتنا ضد الجزع من فكرة الموت.. وقد تكرم عالمنا المعاصر علينا بجعل الموت سلعة رخيصة.. حروب تحصد مئات الآلاف، كوارث طبيعية تجتاح فى طريقها الناس وما تبقى من إنسانية، أمراض وأوبئة أحياناً لا تقدر عليها علوم العصر ولا أسلحته الفتاكة.. كل ذلك أفقد الموت هيبته وجلاله، ونزل به من قمة الجبال المقدسة إلى الشوارع والحوارى المدنسة.. الإنسان خلق وفطر على التعلق بالحياة بدوافع غريزية شتى.. أحياناً نخشى الموت ليس لأنه سيحرمنا من الحياة، وإنما لأنه سيحرمنا من الفرجة على أنفسنا، سيحرمنا من تقبيل أوهامنا كل صباح، سيضع نهاية لقصتنا القصيرة التى مهما طالت فإنها تطول قليلًا.