رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

قامات.. وآهات




أبى أن يخرج من النوبة، من قريته"قرشة" بأسوان، إلا رافعاً رأس المهمشين عالياً، واعتكف ، واستكان فى رحم دنقلة، حتى بدت عليه أعراض العاصمة، فذهب إليها مبدعاً روائياً يبحث عنه القراء ولا يبحث عنهم، فأمرهم يستوى عنده أن توافق دار نشر حكومية على طباعة رواياته"الزعيم يحلق شعره"، أو يشارك فى طباعتها على نفقته، وحتى وان صودرت فيسألوه؟ فيجيب بأنه لا يعرف حتى من صادرها, ولكنه يطالب من صادروها برد الخمسمائة جنيه التى شارك بهم فى طباعتها. إدريس على أحد افراد كتيبة كبيرة من المبدعين الذين كتب عليهم الفقر، والعوز، والتهميش، هؤلاء من أدركتهم حرفة الأدب فعشقوا القراءة، والكتابة، وامتطوا الأقلام، وخرجوا إلى الصفحات يجأرون بمحنتهم، ويعبرون عن بيئتهم، فحتى قريته"قرشة" متمردة على انتمائها، فذكرها"محمد رمزى" فى قاموسه الجغرافى" تتراوح بين التبعية لناحية"إبريم", وبين أن تستقل عنها مالياً فى العام 1856م، وبين أن تكون تابعة لمركز "عنبية"، وبين أن يصدر وزير الداخلية قراراً بإلحاقها بمركز أسوان، فى العام 1941م، فألف الانتماء القلق، كما الفته قريته، حتى أنه دفع ثمن ميلاده الجنوبى بمخاصمة الشمال له، ودفع ثمن انتمائه الشمالى بمخاصمة أهل النوبة له، ومن قبله دفع أجداده ثمن غدر النهر بفيضانه المتقلب وجفافه، وتم تهميشهم , فتعلق بالسماء باحثاً عن الموت ليألفه، فكانت محاولات انتحاره الخمس يخط بها سيرته بعد موت ابنه الوحيد منتحراً، عقب هزيمة 67، فاتجه نحو العاصمة ليتخلص من هامشيته، إلا انه وجد فيها تهميشا آخراً لأهلها، فالتهميش هو قدر حياته، أدرك انه يتمتع به الجميع، ولكن بدرجات متفاوتة، فكانت روايته"اللعب فوق جبال النوبة" رصداً من مهمش لمهمشين آخرين، فالثورة تقوم لأهل الشمال فقط، بينما أهل النوبة ينشدون فى أعراسهم"تبارك الله يا سلطان عبد المجيد"، ولازال"محمد نجيب" بلدياتهم يحكم مصر، وأهل الجنوب الجنوبى لهم ذيول، وأهل الشمال كلهم حكومة. عمل خادماً فى المنازل، وصبى مكوجى، وبقال، وعامل غسيل زجاج فاترينات للمحلات، ثم تطوع فى حرس الحدود، حتى اكتشف أن هناك شيئاً اسمه القراءة بخلاف قراءة القرآن الكريم، والكتب المدرسية، فتعرف فى البداية على"أرسين لوبين" فدخل منه إلى عالم القراءة السحرى، وأصبح زائراً لسور الأزبكية، والمراكز الثقافية الأجنبية، حتى وقع فى عشق الأدب الروسى، وخاصة" مكسيم جوركى"، ثم قبض عليه للاشتباه فى انتمائه لتنظيم شيوعى، ولكنه يعترف لصديقه"محمد شعير" بأن القراءة غيرت مسار حياته، فقد كان يتوقع قبلها أن يصبح لصاً مجرماً محترفاً، فتغيرت رؤيته للحياة، وأحب القراءة، والثقافة، ألف ما يألفه الأدباء من الفقر والعوز، فمات ولا يكفيه معاشه. له موقف خاص من الغرب رغم منحه جامعة أرنكساس الأمريكية جائزتها، عن ترجمة روايته"دنقلة" عام 1997م، فهو يعرف أن الغرب يمارس لعبته لخلق قومية أخرى موازية للقومية المصرية، وهى فى النهاية فتنة، فكل اهتمام الغرب بالنوبة، ومراكزهم البحثية، حتى متحف النوبة، يرى كل ذلك سعى الغرب لتصوير من أجل تذكية حلم أبنائها بعودتها. عبر فى روايته المصادرةعن تمرده على الواقع الذى يفرض عليه بقوة الحضور فيضطر إلى تغيب نفسه، ولذا رفض أساطير النوبة لتكون موضوع روايته، رغم أنها تمثل زخما لأبناء ثقافته، مع يسر تناولها فى الإطار الشعبى الذى تخصص فيه، فبرر ذلك فى حوار صحفى, بأنه تأثر بالأدب الروسى، وهو أدب واقعى، كما أنه علمانى بتكوينه الفكرى، مؤمن بالعقل، ولذا تحاشى النوبة، وأساطيرها، وفضل أن يكتب عن النوبة من حيث المسكوت عنه، والمستور عليه، ولذا كانت صدمة النوبيين أنفسهم مما يكتبه عنهم، لأنه تجاوز ما لديهم من أفكار نقاء عرقهم، فكتب عنهم على نحو أنهم خليط من العرب والمماليك الأتراك والزنج بينما النوبيون يزعمون فى خطابهم غير ذلك. كان له حظاً وافراً من التعتيم، منذ أن كان يكتب فى مجلة"صباح الخير" عام 1969م، حتى نشر له"لويس جريس" قصته فى الصفحة الأولى، وعندما ذهب إلى حرب اليمن مجنداً تساءل ببراءة النوبى الجنوبى:"أين إسرائيل فى اليمن؟"، فعاد وكتب رواية"مشاهد من قلب الجحيم"، و"اللعب فوق جبال النوبة" عن رواية"دنقلا" البساطة السردية التى تباعد بين الرواية الجديدة، والرواية القديمة، فالرواية الجديدة حكاية ذات طابع تمثيلى احتجاجى، تمضى فى اتجاه واحد، وتخلو من حدة الرفض النوبية التى بحثت لنفسها عن جذور هوية حضارية مغايرة، كان تأكيدها نوعاً من رد الفعل الدفاعى فى مواجهة أهل الشمال الذين سلبوا النوبيين حقوقهم. رحل عن عالمنا آخر الرجال الروائيين المثقفين الذين يعيشون فى حدود ثقافتهم فقط، ولم يعبأ يوماً بمفاهيم الحداثة، وما بعد الحداثة، فهو لا يؤمن بها و يكتب ما يعرفه لاناس يعرفهم، ويشبه نفسه بالمغنى الشعبى"شعبان عبد الرحيم"، حتى انه يكتب لمن يعتبرهم يفكون الخط بالعافية.
توفى صباح الثلاثاء 30نوفمبر 2010 مودعاً ثنائية النوبة والعاصمة، بما تحمله كل منهما من معانى الوجود الواقعى الفعلى فى الحياة والوجود العابر.
 
 
[email protected]