رؤى
فى رسالة «التربيع والتدوير» سخّر الجاحظ موهبته للسخرية وتشويه أحد معاصريه، أحمد بن عبدالوهاب، قال عنه: «مفرط القصر ويدّعى أنه مفرط الطول. وكان مربعا وتحسبه لسعة جفرته واستفاضة خاصرته مدورا.. كان كثير الاعتراض، لهجا بالمراء، شديد الخلاف، كلفا بالمجاذبة، متتايعا فى العنود، مؤثرا للمغالبة، مع إضلال الحجة والجهل بموضع الشبهة.. وكان قليل السماع غمرا، وصحفيا غفلا لا ينطق عن فكر، ويثق بأول خاطر. يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلق منهم بسبب، وليس فى يده من جميع الآداب إلا الانتحال لاسم الأدب».
والشىء نفسه فعله مع محمد بن الجهم البرمكى أحد الكتاب المقربين من المأمون، (ترجم كتابا فى سيرة ملوك الفرس، سبق وترجمه ابن المقفع، وعرف عنه إقباله على الفلسفة اليونانية تاريخ الأدب العربى، بروكلمان) قال الجاحظ عنه فى (فصول لم تنشر من آثار الجاحظ: مجلة الكاتب، عدد 17 سنة 1947، طه الحاجرى): سأخبرك عن هذا الرجل، من لؤم الطبع، وسخف الحلم، ودناءة النفس، وخبث المنشأ، مما يشفى الصدر ويثلجه، ويبين عن الغدر فيه ويكشفه..».
عداء الجاحظ لبعض كتاب ونقاد عصره لم يكن من فراغ، بل كانت له حجته، وقد ذكر هذه الحجة فى رسالة «العداوة والحسد»، قال: «وإنى ربما ألفت الكتاب المحكم المتقن فى الدِّين والفقه، والرسائل والسيرة، والخطب والخراج والأحكام، وسائر فنون الحكمة، وأنسبه إلى نفسى، فيتواطأ على الطعن فيه جماعةٌ من أهل العلم، بالحسد المركب فيهم، وهم يعرفون براعته ونصاعته. وأكثر ما يكون هذا منهم إذا كان الكتاب مؤلفًا لملكٍ معه المقدرة على التقديم والتأخير، والحطِّ والرَّفع، والترغيب والترهيب، فإنهم يهتاجون عند ذلك اهتياج الإبل المغتلمة، فإن أمكنتْهم حيلةٌ فى إسقاط ذلك الكتاب عند السيد الذى ألف له فهو الذى قصدوه وأرادوه».
هذه المعركة التى دارت رحاها خلال القرن الثالث الهجرى خلفت لنا الكثير من الأسئلة لم يجب عنها الباحثون بعد، منها: هل بعض الكتب والرسائل التى وصلتنا منسوبة لبعض كتاب العصر العباسى مصنوعة؟، هل الجاحظ أسرف فى وضع الكتب والقصص بأسماء من سبقوه؟، هل وضع الجاحظ وغيره بعض الكتب باسم سهل بن هارون، وعبدالله بن المقفع وغيرهما؟.