رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

 

قضيت خمسة أيام بقريتى «أبو داود» إحدى قرى مركز تمى الأمديد محافظة الدقهلية.. هذه القرية عشت بها حتى نهاية المرحلة الثانوية «1973» لم يكن بها منزل واحد بالخرسانة المسلحة إلا «فيلا العمدة» وكنا نسميها «سراية العمدة» – كل البيوت كانت بالطوب اللبن، ولم يكن بالقرية أى نشاط تجارى سوى محلات بقالة متواضعة جدًا وماكينة الطحين وورشة سواقى.. حتى هذا التاريخ لم تكن الكهرباء قد دخلت بلدنا وكان ارتباطنا فى مرحلتى الطفولة والشباب بالليل والقمر ارتباطًا مركبًا جدا.. الليل كان طلسمًا من المخاوف وحواديت الكبار لنا عن الجن والعفاريت، والوجه الآخر كان جميلا إلى حد السحر وهو الارتباط بليالى القمر والسير خلفه والتعلق به ودائمًا كنت ومن فى عمرى وقت تعلقنا بالقمر نجزم أن به حركة لناس تمشى فوقه.. الحب والشعر والعشق معانى كانت تنزل علينا من السماء كالوحى المقدس، وكانت تمطرنا بها الطبيعة من حولنا لترسم لنا صورًا بهية للحياة أبلغ من أعظم لوحات فنانى عصر النهضة فى أوروبا.

المهم ما إن انتهت حرب أكتوبر وبدأ ما عرف بعصر الانفتاح، إلا وتعرضت قريتنا العذراء لتحرش المال والتجارة، وما هى إلا سنوات قليلة وكانت عملية اغتصاب لروح الريف البريئة قد بدأت واستمرت ومازالت حتى يومنا هذا.. على مدى ما يقرب من نصف قرن – من بداية الانفتاح 1974 إلى اليوم – لم يقترب التخطيط الحقيقى لمستقبل الريف من قريتنا وغيرها من القرى – بمعنى انها تضخمت وتحولت إلى عشوائيات خرسانية منفرة.. لم تعرف قريتنا أبوداود ولم تسمع عن التخطيط الهندسى من مجلس مدينة مركز السنبلاوين الذى كانت تتبعه سابقا ولا من مركز تمى الأمديد الذى تتبعه حاليًا.. الشوارع أشبه بالمخيمات والارتفاعات بلا ضوابط والمصرف الذى يشق القرية ويتكرم عليها بأبشع ألوان التلوث لم يتم التخلص منه بمشروع صرف مغطى، وكان ذلك ممكنا من ثلاثين عاما على الأقل ولم يحدث.

خمسة أجيال على الأقل توالت على القرية من الخمسينيات إلى اليوم – انحدرت الثقافة وتدنت الأخلاق وخربت الذمم وتفشت المخدرات وكثرت الجرائم بكل اشكالها – وهذا حال كل قرى مصر تقريبا.. والغريب الذى يستحق الدراسة أنه خلال نصف قرن مضى على الأقل – من بداية السبعينيات إلى اليوم زاد عدد المدارس من مدرستين إلى خمس مدارس ومعهد أزهرى – أما عدد المساجد فقد ارتفع من خمسة مساجد إلى قرابة أربعين مسجدا ينطلق منها الآذان بمكبرات الصوت معا، وقبل الفجر بنصف ساعة تنطلق اذاعة القرآن الكريم عبر الميكرفونات من كل المساجد دون حساب لمسن أقعده المرض أو طفل رضيع نائم.. لا أعرف – أو ربما أدعى أننى لا أعرف – ما هى العلاقة بين تراجع الأخلاق وخراب الذمم والضمائر وزيادة معدلات الجريمة، وبين تضخم ظاهرة التأسلم الممثلة فى تكاثر المساجد والتدين الشكلى.

المهم فى الأمر الآن أن الدولة ومن أعلى مستوياتها لو لم تتنبه إلى انقاذ ما يمكن انقاذه من ريف مصر سيتحول هذا الريف برمته وهو يمثل تقريبا 60% من مصر إلى مشكلة غير قابلة للحل. الدولة بذلت وتبذل جهودًا جبارة للتخلص من العشوائيات بالمدن الكبرى، لكن ريف مصر هو أكبر وأخطر عشوائية على خارطة البلاد والعباد.. هذا الريف مصدر للثروة الزراعية والحيوانية وأيضًا كان مفرخًا لاعظم نوابغ مصر، وأعتقد أن هذا الريف الآن يمر بحالة من حالات العقم والتشوه الكامل.. إذا كان انقاذ الريف وحتمية التدخل الجراحى لتجميل بعض ما تشوه سيكلف الدولة بأسعار اليوم مائة مليار جنيه فإن المؤكد بعد عشر سنوات سيكلفها نفس التدخل ونفس العملية الجراحية أكثر من 200 مليار جنيه.

الادارات المحلية بالمحافظات بدءًا من المحافظين وحتى الوحدات المحلية بالقرى جزء من المشكلة وليس الحل، وأتصور أن الدولة المصرية لن يكتمل عرسها بأى انجاز على الأرض لو لم تنتبه إلى أن الريف هو الساق الثانية لأى بلد فى الدنيا، وبدونها فنحن بلد برجل واحدة.. وبمناسبة حمى الحملات الانتخابية استعدادا لاستحقاق مجلس النواب القادم أتمنى أن يأتى المجلس الجديد بوجوه محترمة ترتبط بدوائرها بدلا من الارتباط العضوى بالوزراء وكبار المسئولين سعيًا وراء مكاسب شخصية فاضحة.. القضية تحتاج لخطة دولة على أعلى مستوى قبل أن نتباكى على ثروة تركناها «اسمها الريف» تموت وتتحلل وتذهب مع ريح الإهمال.