رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

عندما تحتل الأوطان يحررها العقل الواعى والارادة الحرة، أما العقل المحتل والمسطح فإنه مقدمة مأساوية لفقدان الأوطان وضياع مصائرها.. من يتأمل بداية ظاهرة تجريف الأرض الزراعية منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضى سيجد هناك ارتباطا بين لونين من ألوان التجريف – تجريف الأرض وتجريف العقل– والمسألة ليست صدفة لأن بداية التحول من حقبة الخمسينيات والستينيات إلى حقبة السبعينيات وما تلاها، كان المؤشر الأبرز فى هذا التحول هو فقدان روح الثورة لصالح جبروت الثروة.. أعرف الآن أن كلمة ثورة أصبحت سيئة السمعة لأنها مرتبطة لدى البعض بما حدث فى أعقاب 25 يناير 2011، رغم أن كثيرا من المصابين بفوبيا الثورات يستخدمون فى مديحهم لشخصية ما تعبير «أنه أحدث ثورة فى كذا وكذا». وأذكر ربما متأملاً – ليس إلا – تعبير المهندس أحمد عز فى آخر سنوات حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك بأن جمال مبارك هو مفجر ثورة التغيير – وتشاء الأقدار أن تكون أبرز شعارات ما حدث فى يناير 2011 «لا للتوريث»، وأن ثورة حقيقية عصفت بأحلام مفجر ثورة التغيير الوهمية.

الدولة المصرية وعلى مدى نصف قرن تقريبا (1970 – 2020) لم تشعر أو تشعرنا نحن بأنها قلقة من حالة التجريف الفكرى والثقافى والقيمى الذى تسلل إلى المصريين مع بدايات سياسات ما عرف بالانفتاح الاقتصادى الذى وصفه الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين بانفتاح السداح مداح. حالة تجريف العقل ساعدت عليها ثقافة «اللى معاه قرش يساوى قرش» وتحولت الفهلوة إلى شطارة، والغش إلى سلوك عام حتى فى امتحانات المدارس والجامعات. تراجعت قيمة الفنون والآداب لصالح التجارة وعقود العمل للخارج. نزح ملايين المصريين عبر نصف قرن إلى دول الخليج متعطشين للمال وستر الحال – وهذا حق لا يؤخذ أحد به – ولكن الذين سافروا شبه مهاجرين عاد كثير منهم ليس فقط بالفلوس وإنما بثقافة بلدان الرزق.

ومع الترويج لما عرف بالصحوة الاسلامية نهاية السبعينيات (فى أعقاب الثورة الايرانية 1979) اعتقد ملايين من المصريين الذين عاشوا فى دول الرزق أن ما تحصلوا عليه ما كان يمكن أن يتحقق إلا لأنهم قد حجوا إلى بلدان الحق والفضيلة والدين القيم، وهذا ليس صحيحًا فى مجمله. بهذا المعتقد ربط كثيرون بجهالة وعبثية بين عوائد نفط خرج من باطن الأرض وتجليات وحى هبط من السماء. تشبع عشرات الملايين من الذين سافروا وعادوا بثقافات مخاصمة لسماحة النهر ودفء الوادى وما تبقى من إرث الأجداد الأوائل قبل خمسة آلاف سنه ويزيد.. الأخطر من ذلك أن اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات كان بداية لمخاصمة الوطن باسم الدين، واستبدال قطاع كبير من المجتمع قضية الانتماء للوطن بالانتماء للجماعة أو التنظيم.

خلال خمسة عقود من هذه التحولات انهار التعليم والبحث العلمى، وفى ظلمة الأحوال وعبثيتها حصل المئات وربما الآلاف على درجات ماجستير ودكتوراه مضحكة ولا تساوى ثمن الحبر الذى كتبت به، والكارثة أن كثيرا ممن سرقوا هذا الألقاب خلال العقود الماضية نالوا عن سرقاتهم هذه جوائز من الدولة لم يحصل عليها الكثير من كبار العلماء والمفكرين فى حقب سابقة. انهارت السينما وتوقف النشاط المسرحى تقريبا، وتحول الاعلام إلى مؤسسات تسطيح. النتيجة الطبيعية لهذا الانهيار فى منظومة القيم والفكر والعلم والثقافة والانتماء أن انفجر قلب الوطن فى يناير 2011 باسم ثورة «الورد اللى فتح فى جناين مصر»، ثم تكشف للكثيرين وفى قلب الميدان أن هناك من خطف الورد وحوله إلى سكاكين وسيوف بيد جماعات كارهة لفكرة الوطن والمواطنة، ثم تحول مرة ثانية إلى لاصق سياسى على العقول والأفواه والعيون خشية أن يفجر البوح صمت الشوارع الحزينة.. التقاعس عن إنقاذ العقل الجمعى المصرى جريمة تاريخية، بل إن هذا التقاعس يرقى لمستوى المؤامرة وانعدام الارادة فى استرداد كرامة الأوطان مهما كانت الظروف الصعبة التى حولها البعض لقميص عثمان الذى باسمه ترتكب زورا وبهتانا أبشع الجرائم منذ خمسة عشر قرنا.. وليتنا نتذكر ونتأمل ونفهم قول الرائع الأستاذ توفيق الحكيم فى كتابه «تحت شمس الفكر» قبل ما يزيد على ثمانين عامًا «إن أقوى امبراطورية على الأرض وقفت ذات يوم وخلفها أساطيل البحر والجو – مكتوفة اليدين حائرة أمام رجل هندى خلفه عنزة».. انها يا سادة نفس الامبراطورية التى أسقطها من عليائها فيما بعد شاب مصرى أسمر لم يكن خلفه سوى حلم وإرادة وملايين الباحثين عن لقمة كرامة.