رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أوراق مسافرة

 

كنت أسمع صوت نشيج بكائها يتردد فى أرجاء بيتها الخالى إلا منها، الجدار ملاصق للجدار، وصوتها وهى تصرخ «يا رب» فى سكون الليل والناس نيام، أو فى ساعات القيام، كانت تتحدث بصوت عال وكأنها تريد ان يسمعها أولادها من خلال عشر صور لهم أو أكثر علقتها على الجدران، وقد أحاطت بها نفسها وكأنها دروع تحميها من الوحدة، كان قلبى يتمزق ألمًا، فتنسال دموعى لأجلها، أتردد فى أن أدق بابها لأحتضنها عسى ان أخفف عنها ما هى فيه من عذاب، أو أطلبها هاتفيا، فقد سبق ان فعلت هذا مرتين، وفى كلتيهما كنت أفاجأ بها وقد جففت دمعها، وتوارت خلف ابتسامة عريضة مغتصبة وهى تفتح لى الباب، سألتها فى المرتين عما بها، ولم تحك كلمة.. كانت تتمتم فقط «الحمد لله.. الحمد لله» لأنها كانت تحكى لله وحده وتصرخ امامه وحده، ولكنى كنت أعلم.

ودعوتها مرات ومرات أن تجىء إلى وتأتنس بى بدلا من وحدتها الطويلة، لكنها كانت ترفض فى إباء وعزة نفس فريدة، تتعلل بانشغالاتها فى أمور البيت، أو بأن أحد أبنائها معها على الهاتف، أو أى من أقربائها يحادثها، كنت أعلم يقينا ان كل ما تقوله عار من الصحة، فشقتها الصغيرة نظيفة دوما، لأنها بمفردها ولا يزورها أحد لأسابيع طويلة، فلا تحتاج الى هذه الانشغالات، وأمراضها التى حلت ببدنها من ضغط وسكر وقلب، قلصت من تنوع طعامها، فباتت تعيش على «شوربة الخضار» والأطعمة الصحية من خضراوات وفاكهة دون عناء الطهى ووقفة المطبخ، وكنت أعلم ان ولدها وابنتها المتزوجين فى مناطق عمرانية بعيدة، لا يأتيان إليها إلا فى العيدين الفطر والأضحى، وأحيانًا مرة أو مرتين إضافيتين طوال العام، لذا هى وحيدة.. وحيدة بين جدران شقتها التى تحمل كل ذكرياتها.. أحلامها التى تكسرت، عمرها الذى ضاع على بشر لم تحصد منهم ردا للجميل ولم يحسنوا إليها صنيعها، الزوج الذى خانها وتزوج بأخرى وذهب بعيدا، الولد والبنت وقد صارت لكل منهما حياته وانشغالاته، الأقارب المنشغلون باللهث وراء مطالب الحياة، وهكذا.

سألتها مرة.. لماذا لا تقيمى مع أحدهم، فتجدى الرعاية والاهتمام؟، ابتسمت فى أسى وقالت جملتها «البنى آدم تقيل ومن خرج داره قل مقداره» هكذا حياتها، ماذا تنتظر.. «الموت»، تهمس لى بالكلمة وتضيف «فيه راحة» لا حد يكل بيا ولا يشيلنى ويحط فيها ويدعى عليا بالموت.

«حاجة س» مؤكد لست وحدك من تعيشى أرذل العمر وحيدة حزينة تشكى همك لله وحده، مؤكد أمهات كثيرات يحصدن جحود الأبناء من إهمال وتجاهل، متناسين فضلك العظيم الذى لا يمكن ان يوفيه عطاء أو فضل، الأم المصرية الوحيدة فى العالم التى تنسى نفسها تماما لأجلها اولادها حتى من قبل أن يخرج وليدها من رحمها للحياة، الوحيدة التى تهب كل القادم من عمرها لأولادها وايضا زوجها، الوحيدة التى إذا مرض طفلها وحذرها الأطباء من العدوى، التصقت بطفلها تتنفس من انفاسه، تسهر بجانبه الليالى تداوى وتبسمل وتحوقل وتدعو الله أن يشفيه وان تمرض هى بدلًا منه.

الوحيدة فى العالم التى تحمل هم تعليم أولادها وتذاكر لهم بنفسها مهما حصلوا على دروس خصوصية، التى تذهب معهم صبيحة الامتحان حتى باب المدرسة تدعو لهم وتراجع معهم اهم الأسئلة، الوحيدة التى تقتطع من «منابها» فى أى طعام شهى وتلقمه أفواه أولادها وزوجها، التى «تستخسر» فى نفسها أى جديد من احتياجات شخصية، لتوفر ما يحتاجه أطفالها حتى لو كان مجرد لعبة او نزهة ترفيهية، الوحيدة التى توفر جنيهات من مصروف البيت «على جنب» لتشترى بها اشياء لجهاز ابنتها، والبنت لا تزال فى الروضة، وتضغط حياتها لتدفع مع زوجها مقدم شقة «تمليك» للولد وهو لا يزال فى ابتدائى.

إنها أم فريدة مضحية معطاءة، فهل تستحق فى مشيبها إلا الرعاية والحب والرحمة والعطاء، وأن يقبل أولاها يديها بل وقدميها لأن الجنة تحتها..هل يكفيها يوم واحد عيد.. وللحديث بقية.

[email protected]