عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تأملات

 

 

 

 

عاب عليّ بعض الأصدقاء ممن أعتز برأيهم، وكذا بعض القراء ما كتبته الأسبوع الماضى فى هذا المكان عن ابن خلدون ورأوا أننى نزلت بالرجل من عليائه إلى الأرض، وأننى بذلك قمت بذات الدور الذى انتقدت على أساسه آخرين ممن يغوصون فى تراثنا العربى الإسلامى بهدف تشويهه وتشويه رموزنا التاريخية سواء كانت ثقافية أم دينية أم غيرها. وعلى هذه الخلفية تصورت أننى ربما أكون أسأت عرض موقفى، أو يكون هؤلاء أساءوا قراءة ما كتبته وأولوه على غير ما هدفت ولذا لزم التوضيح.

بداية أشير إلى أننى لم أنل من الرجل على مستوى إسهاماته على الإطلاق، فلست فى الموضع الذى يجيز لى ذلك ولا الموضوع كان يهدف إلى ذلك من الأصل، فهدف مقالى الفائت كان توظيف وضعية ابن خلدون لفهم واقعنا الحالى، على صعيد دور بعض الرموز الثقافية فى حياتنا المعاصرة والرغبة المشبوبة فى التقرب إلى الحكام، وهى الصفة التى لازمت ابن خلدون وكانت ظاهرة فيه بشكل يتجاوز ما كان عليه الكثيرون ممن اتسموا بهذه الصفة من العلماء والمفكرين فى تاريخنا العربى والإسلامى.

على العكس فإننى، بناء على المصادر التى اعتمدت عليها، أثنيت على إسهاماته وكان مناط التركيز صفة سلبية من شخصيته وليس تلك الإسهامات. بعيدا عن هذا وذاك،ومع الإقرار بأن الرجل قدم ما جعله سابقا لعصره على نحو ما ذكرت فى مقالى الماضى، فإن ذلك لا يمنع من الإشارة بل والتأكيد على أن نقد إسهامات ابن خلدون على أساس علمى أمر ليس جائزا فحسب بل يبقى أمرا مطلوبا.

وفى ذلك يعرب المؤرخ محمود اسماعيل مثلا، وله كتابات مهمة رصينة تحترم، عن دهشته مما يعتبره ولعا عربيا بابن خلدون. ويرى أنه لم يكن سوى مجرد ناقل وأحيانا ناقل بالحرف عن آخرين وخاصة إخوان الصفا والقضية التى ينقلها عنهم أحيانا تأتى عنده غامضة أو مبتسرة لأنه نقل بدون فهم – هكذا يقول محمود اسماعيل (حوار منشور فى الخليج الإماراتية بتاريخ 11 اكتوبر 2004). ويضيف: وأكاد أجزم بأن هناك من المحققين والمثقفين العرب من اكتشف هذه الحقيقة لكن الخوف من الهجوم على «أسطورة» ابن خلدون هو ما منعهم من كشفه.

بل إن الرجل يذكر أن هناك ثلاث نظريات ينسبها ابن خلدون إلى نفسه هى فى الحقيقة منقولة عن أخرى. ويمضى الرجل إلى حد قوله بأن مقدمته تتسم بالغموض والابتسار الناتج عن سوء الفهم. وأما عن تاريخ ابن خلدون فإسماعيل يرى أن معلوماته عن الشرق الإسلامى منقولة بالكامل عن ابن الأثير وبأسلوب يدعو إلى المقارنة النصية أحيانا أما وجهات نظره حول الخلافة والوزارة فهى موجودة فى جميع كتب الأحكام السلطانية.

رغم قسوة ذلك الموقف وتطرفه، فى حدود ما أراه، إلا أنه ينبغى على معارضيه أن يقارعوا الحجة بالحجة، ولا يمكن القول إن فيه تشويهًا لابن خلدون ما لم نقدم ما يدحض مضمونه. ما أريد التأكيد عليه أن إعمال النقد الموضوعى ليس بأى حال تشويهًا بقدر ما يمثل نوعا من السجال الذى يثرى معرفتنا ويطورها.

لتقريب الصورة أكثر أقدم مثالين أحدهما من السياق الإسلامى والآخر من السياق الغربى.. الأول يتعلق بما أشار اليه ابو حامد الغزالى فى كتابه «فضائح الباطنية» من أنه كتب هذا الكتاب بناء على طلب الحاكم، فأن يأتى أحد بناء على ذلك ليصف الغزالى بأنه مثقف سلطة فقد يكون له ما يبرره. وقد يعزز ذلك أن الغزالى، وفق ما ذهب اليه فاروق ميثا مؤلف كتاب «الغزالى والإسماعيليون، أسس كذلك المدرسة النظامية بناء على طلب الحاكم، غير أن يأتى آخر وبناء على متابعة متأنية لسيرة الغزالى وحياته الفكرية وينفى ذلك مشيرا إلى أن مضمون كتاب الفضائح يتسق مع تلك السيرة ومواجهة الغزالى لتلك الفرقة من الشيعة، فله ذلك أيضا.. فهذا هو الفكر الذى يتسم بالنسبية، فالحقيقة لا يملكها أحد.

المثال الثانى يتعلق بالفيلسوف الألمانى هيجل وهو من هو فى مسار الفلسفة الغربية الحديثة، حيث يعد أبرز أقطابها ولا ينافسه فى ذلك سوى سلفه عمانوئيل كانط. ورغم ذلك فإن تناقض الآراء بشأنه وصل لحد لا يمكن معه سوى أن تشد شعرك، فالبعض- وفق ما أشار اليه الدكتور زكريا إبراهيم فى كتاب له عن هيجل– اعتبره الفلسفة بلحمها ودمها، فيما اعتبره آخرون أكبر غلطة فى تاريخ الفكر، وفيما اعتبره فريق عملاقا فكريا يتضاءل إلى جواره باقى الفلاسفة فإن خصمه شوبنهاور قال عنه إنه لم يزد يوما عن كونه مجرد «حمار ميت».. ورغم ذلك فإن مكانة هيجل لم تتأثر أو تتزعزع.

الخلاصة.. إن النقد لا يقلل من قيمة الشخصية موضع ذلك النقد، وهو ما يستدعى التوقف عن تقديس رموزنا الثقافية ونسج أساطير حولهم، فقد كانوا بشرا ونحن كذلك بشر، ويجب المراكمة على ما قدموه وهو أمر لن يتم إلا بتمحيصه.. وأعتقد أن ذلك هو الفارق والسبب فيما صار إليه الغرب وفيما آل إليه حالنا الذى نحن عليه الآن.. وذلك هو جوهر الإشكالية!

[email protected]