رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أوراق مسافرة

عندما رأيته يبكى فى حرقة وألم، انتابتنى للحظات مشاعر شفقة ورحمة عليه، وساورنى اعتقاد «وهمى» أنه تاب وأناب عن كل ما فعله فى حق البشر من ظلم وجبروت وتملق وتسلق ومكائد، كنت - وغيرى كثيرون - أراه نموذجاً متحركاً للشر والظلم، ينفر منه كل من حوله ويكرهونه «سراً»، ويتقربون له علناً لمركزه المرموق وسلطته وسعة نفوذه الذى يمكنه من الإيذاء، وقدرته على رفع هذا لمكانة لا يستحقها وإذلال ذاك دون أى وجه حق، لم يسلم من ظلمه حتى أقرب الناس اليه، زوجته التى هجرها لأخرى وتركها تتسول منه النفقة لها ولولديها، وها هو يفقد أحدهما فى حادث مروع «واللهم لا تكتب على أحد أبداً حرقة القلب على ضناه».

المهم أن صاحبنا انهار وبكى، نهنه كالأطفال على قبر ابنه وهو ينبش ترابه معفراً وجهه به، فيما صوت زوجته التى قهرها وظلمها يصك أذنيه: «دلوقتى استريحت.. استريحت من نفقاته، ربنا ينتقم منك، إديك بتدفنه بدل ما هو يدفنك، عيش بقى واتمتع».

بكاؤه وانهياره، اعتكافه بالمنزل بضعة أسابيع وإطلاقه للحيته، وتردده على المسجد فى كل مواعيد الصلاة، خدعت كل من حوله بإنه تاب إلى الله وأناب بعد فاجعة فقدانه لابنه الشاب، وأن دخوله القبر ليوسد فلذته التراب، جعله يفيق ويفكر فى آخرته، بأنه إن أجلاً أم عاجلاً سيواجه فى تلك الحفرة الضيقة المظلمة بكامل أعماله، يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا نفوذ أو سلطة، ولإكمال مشروع توبته الوهمى جعل رنات هاتفه أدعية دينية، وأرجأ فى كل هذا أعماله ومشروعاته وكل ما يتعلق بنفوذه، وسرح سكرتيرته الخليعة الحسناء، والتى ارتبط بها بعلاقة آثمة على غرار علاقاته المتعددة بغيرها، واستبدلها برجل محترم وتوسم من حوله فيه الخير، بأنه بالفعل تاب عن كل شروره وآثامه، وإنه أفاق وعاد إلى ربه نادماً.

لكن الطبع يا سادة غلاب، وإذا كان البشر قد انطلت عليهم خدعة «توبته» فالله الذى أمهله طويلاً على خطاياه، لا يمكن خداعه، فأراد أن يفضحه لمكره، فما لبث «العتل الزنيم» أن عاد إلى سالف كل أعماله بكل فجر وجبروت، ونسى العظة من موت ابنه وكإن شيئاً لم يكن، وكلما مرت به عظة جديدة من موت أحد الأصدقاء أو الأقارب، توشح بالتوبة والورع حيناً، ثم ما لبث أن عاود الكرة لحياته المليئة بكل الموبقيات، إنه نموذج نقابل أمثاله الكثير، هؤلاء الذين يتعظون مؤقتاً، ثم يعاودون حياة الذنوب بكل جبروت.

القبر هو الواعظ الصامت الذى لا يتكلم، وزيارتنا له بين حين وآخر لدفن عزيز علينا يترك بداخلنا صوت متميز يصرخ فى ضمائرنا، بأننا كلنا ميتون وقادمون إلى تلك الحفرة بعد أن ننتهى من أداء الاختبار الإلهى الصعب واخترنا أحد النجدين، الخير أو الشر، كلنا قادمون إلى تلك الحفرة المظلمة، فلا ملك ستتحول عظامه إلى ذهب، ولا بطل ستتحول عظامه إلى حديد، ولا صاحب سلطة أو مال ستتحول عظامه إلى عملات أو خزانة مال، كلنا ستصبح عظاماً نخرة، ولحمنا نهباً لديدان القبر، وأرواحنا تعود لخالقها، وأعمالنا نحاسب عليها.

فيا من لا تتعظ بأكبر عظة وهى الموت، متى تتعظ، ومتى ترجع إلى ربك، ومتى تتوب، تباً لكل هؤلاء أصحاب العظة المؤقتة، الذين يملأون حياتنا فساداً، فى الملمات يذرفون دموع التماسيح، ويكسون وجوههم بنظرة الحزن كالقناع الزائف، فيما نفوسهم لا تزل كريهة، وأعمالهم دنيئة مشبعة بالشر والمكر والخيانة والخديعة والظلم والبخل، إلى متى سيظل هؤلاء فى غفلة عن الموت، والموت ليس فى غفلة عنهم!، إلى متى سيظلون فى غفلة عن ساعة الاحتضار، وملك الموت ليس فى غفلة عنهم، وصدق الله العظيم «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ».

 

فكرية أحمد

[email protected]