رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الناصية

لم أنس يوماً «عم حامد» العامل فى شركة المطاحن، بوجهه الشاحب الذى لا تعرف له لوناً هل هو أصفر صفار المرض أم أبيض بياض الموت؟.. وجسده النحيل، المنحنى، حتى يكاد وجهه يلامس الأرض، وكأنه يحمل على أكتافه أوجاع العالم كله.. وكنت أشفق عليه كثيراً وهو يصعد سلّم مقر «الوفد» القديم بالمنيرة فى أوائل التسعينيات، وهو يقبض بيديه على كيس من البلاستيك، لم يكن بداخله مجرد مستندات عن فساد كبار المسئولين فى الشركة، ولكن كنت أشعر أنه يحتفظ بداخله بمرارة المعيشة وبمأساة عمر كامل.. بل وبمأساة عمال مصر أجمعين!

وكان صراخ العمال فى التليفزيون «المنحة يا ريس» يذكرنى دائماً بـ«عم حامد» فقد كان هذا النداء هو آخر نداء تسول على الهواء مباشرة من عمال مصر، وبعدها انهارت هذه الطبقة العاملة، وانهارت معها المصانع الكبيرة التى قاموا ببيعها فى مزاد علنى بأبخس الأسعار.. وسرحوا معظم العمال «معاش مبكر» فى الكثير من المؤسسات العمالية، ومن يومها اختفى الاحتفال بيوم العمال، واختفى معه إنتاج المصانع من الغزل والنسيج والحديد والصلب والألومنيوم، ومن يومها، أيضاً، ظهرت المنتجات الصينية لتغزو الأسواق والبيوت المصرية فى حين أن انتاج مصر من القطن الذى كانت تتباهى به أمام الدول، والتى كانت بها أشهر بورصة للقطن فى العالم، تراجع وصرنا نستورده، وصار اسم العمال والقطاع العام من الكلمات العيب والقبيحة والمرادفة للخسائر..!!

وبينما كان نداء «ثمانى ساعات عمل، ثمانى ساعات نوم، ثمانى ساعات فراغ للراحة والاستمتاع»، هو النداء الذى أشعل مظاهرات العمال فى يوم 1 مايو عام 1886 فى الولاية الامريكية شيكاغو وفى تورنتو بكندا، وأعلن يومها نحو 400 ألف عامل، الإضراب عن العمل لتحديد ساعات العمل، وتحسين الأجور.. فإنه رغم سقوط عدد من العمال قتلى فى هذا اليوم، الذى أصبح عيداً لعمال العالم، فإنَّ هذا العيد لم يؤسس فقط لحقوق العمال، ولكنه أسس كذلك لعلم الإدارة الحديثة فى كيفية إدارة المصانع والمؤسسات الإنتاجية الكبرى، لتتحول إلى أكبر مصدر من مصادر الدخل للدول.. وليس أكبر مصدر لخسائر الدخل القومى!

ورغم أننى لم أعرف أين ذهب «عم حامد»، فقد اختفى فجأة، وكان قبلها يأتى يومياً، حتى بعد أن نشرت الموضوع الذى، كالعادة، لم يرد أحد من المسئولين على وقائع الفساد.. فقد كان «عم حامد» قد صادق الكثير من الزملاء، ويحكى لهم بالساعات، عن التدمير والتخريب الذى يجرى داخل الشركة سواء بالتجارة فى الدقيق، أو بشراء أسوأ أنواع القمح أو خلط القمح الفاسد بالقمح الجديد أو تسريب وبيع القمح المحلى، واستبداله بآخر مستورد كله سوس وعفن.. واعتاد «عم حامد» أن يزورنى كل فترة؛ على أمل أن يأتى رد من المسئولين على موضوعه.. وكان يجلس بجوارى حزيناً بدون كلام أو حركة سوى حركة يديه بالسيجارة التى كان يحرقها وكنت أشعر أنه يحرق عمره معها..!

ولمصر تاريخ عمالى كبير يرجع إلى عام 1898 بتشكيل أول نقابة لعمال السجاير، وفى عام 1899 قام أول تجمع عمالى فى مصر، رغم أنه لم يكن مصرى القيادة، فقد كان العمال اليونانيون هم القياديين فى الإضراب لتخفيض ساعات العمل ورفع الأجور.. وفى 15 مارس 1924 قام حزب الوفد، بقيادة سعد زعلول، بتكوين اتحاد للعمال باسم الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصرى، وذلك للإشراف على نقابات العمال، والدفاع عن مصالحهم والاتصال بالاتحادات العمالية فى بلاد العالم.. ولكن الرئيس جمال عبدالناصر، وتحديداً فى عام 1964 جعل الأول من مايو عطلة رسمية، يلقى فيها خطاباً سياسياً أمام النقابيين وقيادات العمال لإطلاعهم على أحوال البلاد السياسية والاقتصادية.. وشيئاً فشيئاً تحول الخطاب مع السادات ثم مبارك ليس أكثر من مناسبة لحصول العمال على منحة مالية يذكرها الرئيس قبل أن يختم الخطاب.. وكان مبارك بطريقته الثقيلة المعهودة يتناسى ذكر المنحة، ويعطى انطباعاً أنه سيختم الخطاب فيصرخ العمال «المنحة يا ريس.. المنحة يا ريس»، وهو لا يدرى، كالعادة، أن كلهم «عم حامد» يصرخون، مثله ليس من أجل المنحة فقط ولكن من مرارة المعيشة.. والفساد!!

[email protected]